22-05-2025 09:13 AM
بقلم : د. أجمل طويقات
إلى أولئكَ الذينَ عاشوا زمنًا لا يُقاسُ بالسّاعاتِ، بل بنبضِ القلبِ، ورائحةِ الطباشيرِ... إلى مَن مرّوا من بوّابةِ المدرسةِ وهم يُخبّئونَ في حقائبِهِم الحُبَّ، والعِلمَ، وصدقَ الانتماءِ، معَ مجموعةٍ منَ الدّفاترِ والكُتبِ المدرسيّةِ، هذا النصُّ الذي يكتنزُ ذاكرةً عابقةً بالحنينِ إلى ماضٍ حاضرٍ في الوجدانِ.
كانت المدرسةُ في الماضي وطنًا مُصغَّرًا، نُحبُّهُ على فقرِهِ، ونشتاقُ إليهِ وإنْ ضاقَ بنا جدولُهُ اليوميُّ، أو أرهقَنا بردُ صباحِهِ وحرُّ مسائهِ. وكانت ساحتها باحةً للمرحِ والاستراحةِ، والصّفُّ مجلسًا للوقارِ والعِلمِ، وكنّا نرى المعلّمَ رسولًا لا موظّفًا؛ نحملُ لهُ المهابةَ في نظراتِنا، ونُسارعُ إلى حَملِ حقيبتِهِ، لا مجاملةً لهُ فحسب، بل حُبًّا، وهيبةً، وانتماءً لما يحملُ من قِيَمٍ.
ما أزال أذكرُ صباحاتِ المدرسةِ كما لوْ كانت أمس؛ كنّا نُرتّبُ خُصَلَات شَعرِنا كما نُرتّبُ دفاترَنا، وننتظرُ صوتَ الجرسِ، ندخلُ الصفوفَ، ونبدأُ يومًا جديدًا منَ الفضولِ، والسّؤالِ، والأحلامِ الصغيرةِ.
مَشاهدُ الطريقِ والمقاعدُ القديمةُ التي أبقينا فيها أجزاء منا، بقيت هي كذلك معنا في خبايا الذاكرة التي لا تموت.
كنّا نَحملُ دفاترَنا في حقائبَ قماشيّةٍ، أو نَربطُها بحزامٍ جلديٍّ، ونمشي... نمشي طويلًا، نُطاردُ ظلالنا في الطُّرقاتِ، نلتقطُ حِجارةً نَلعَبُ بها، ونُلقِي التّحايا على الجيرانِ، والشُّرطيِّين، والعابرينَ، ونُحرّكُ كفوفَنا لكلّ طائرةِ عابرةِ.
نَجتمعُ صيفًا داخلَ الغُرفِ الصّفيّةِ دون مكيّفاتٍ، وشتاءً على مقاعدَ خشبيّةٍ باردةٍ صابرة مثلنا، لا تعرف الشكوى، ونُنشدُ للوطنِ من أعماقِ القلبِ، كانَ يومُنا الدراسيُّ مهرجانًا صغيرًا بالمعنى العميقِ للكلمةِ؛ فيهِ وقارُ الطّابورِ الصّباحيِّ، ونشوةُ الإجابةِ الصّحيحةِ، وصوتُ المعلّمِ إذا قالَ: "أحسنتَ!"، كأنَّهُ يُعلّقُ وِسامًا على القلبِ. نحنُ جيلٌ بنى للوالدين صرح هيبةٍ في النفوس، وللمعلّمِ منارةَ مهابةٍ، وأعطى للصّداقةِ وسمَ القُدسيّة.
جيلٌ يتقاسمُ اللقمةَ، والسِّرَّ، والمصروفَ، ويُضحّي لأجلِ صديقِهِ دونَ حسابٍ، يرتبط ببيئتِهِ، متشبّثًا بكلّ تفاصيلها؛ جيلٌ مَشى إلى المدرسةِ في كُلِّ الفُصولِ، قطعَ الطريقَ الطويلَ ذَهابًا وإيابًا خلالَ أعوامِ الدّراسةِ دونَ مَلَلٍ، لمْ نَعرفِ الحافلاتِ المكيّفةِ ولا السيّارات الفارهة، وما عرفَتْنا؛ فكلُّ خطوةٍ خطوناها كانت نُزهةً وبصمةً على صفحةِ أرضٍ تبادلنا معها الحياة حبًّا بحبّ.
نَعودُ إلى بُيوتِنا على الأقدامِ ذاتها التي انطلقتْ صباحًا ولا تُجيدُ التّذمُّرَ، نُحدّثُ الأمهاتِ عمّا تعلمنا، والآباءِ عمّا قدَّمنا، نَروي تفاصيلَ يومٍ ما يزال يَعيشُ فينا حتى اللحظةِ، عَبِقًا بشذا الطّباشيرِ، مغتنيًا بزاد الأيّامِ البسيطةِ.
جيلٌ لمْ يُغْنِهِ مُلخّصٌ ولا "دوسيّهٌ"، امتحنَ بالكتابِ كاملًا، ودرسَ من "الجِلدةِ إلى الجِلدةِ"، دونَ معلّم خصوصيٍّ. همُّهُ كانَ إثباتَ حضورِ القلبِ والعقلِ معًا؛ فلا غيابَ إلّا بعذرٍ قاهرٍ.
اعتدنا صوتَ المعلّمِ الوقورِ يقولُ: "اكتُبِ القطعةَ أكثرَ من مرّةٍ"؛ ثلاثًا، خمسًا، سبعًا ... وقدْ تَصلُ إلى عشرِ مرّاتٍ. لمْ نرَ فيها عقوبةً بل أمرًا مُطاعًا يشقُّ دربًا إلى الفهمِ. وقفْنا على السّبّورةِ، وحللْنا المسائلَ أمامَ العيونِ المُترصّدةِ، فتعلمْنا الشّجاعةَ لا التهرُّبَ.
لمْ نتابعْ أخبارَنا إلّا منَ التّلفزيونِ الأردنيِّ مساءً، ومن الإذاعةِ المدرسيّةِ صباحًا، والنّشراتِ الحائطيّةِ المخطوطةِ، الّتي حُفرتْ في ذاكرتَنا بعمقٍ. لمْ نُدخلْ المدرسةَ بهواتفٍ نقّالةٍ، ولمْ تُشتّتنا مواقعُ التّواصلِ، ولمْ يشْكُ أحدنا منْ ثِقَلِ الحقيبةِ، أو كثافةِ الدروسِ، أو قلّةِ التّشجيعِ.
جيلٌ لمْ نُصَبْ بانهيارٍ نفسيٍّ من عصا المعلّمِ، ولمْ نتأزّمْ منْ توبيخِ الأهلِ، ولمْ نَكتُبْ على شاشاتٍ الهاتف أو "التابلت"، بل حفرْنا الحروفَ الأولى بقلمِ الرّصاصِ على دفترٍ باهِتٍ، ونمَتْ المعاني فينا كما تنمو الجُذورُ في التّرابِ الخصب.
ولمْ تتعلّقْ قلوبُنا بمربّياتٍ، نشأنا في حضنِ أُمٍّ واحدةٍ تكفينا، وتزيدُ، وكنّا نَحيا اليومَ المدرسيَّ كمن يحتفل بالعيد... يحدونا شغفٌ ورغبة عميقةٍ في أنْ نُدهشَ المعلّمَ بالإجابةِ.
مصروفُنا الزهيد كان كفيلًا بأن يَشتري فرحتَنا؛ شطيرة فلافلٍ، بسكويتٌ رخيصٌ، عصيرٌ ليس له من الفاكهةَ إلا الاسم. لكنَّ أطيبَ ما نحملُ رغيفُ طابون مشبّعٌ بالزيت والزعتر، لفّتْهُ أُمّهاتُنا بكيسٍ ورقيٍّ، وأحطنه بالابتهالات، وخبّأن فيه من طهرِ أيديهنَّ بركةَ يومٍ لا يُشبهُ غيرَهُ.
نأتي المدرسةَ مَشيًا، نلعبُ ونضحكُ، ونَصلُ بوجوهٍ مُتورّدةٍ من لهوِ الطّفولةِ.
أكتب الآن عن تلك الأيام وكأنَّ عقلي قد نفضَ عن كاهله غبارَ السّنينِ، وقلبي قد فتحَ بوّابةَ الحنينِ، تعبرُ منها روائحُ الخبزِ، ممزوجةً بعبق الملابس النظيفة، التي لم تكن تعرف فلسفة الماركات ولا بهرجةَ الألوانٍ، بل كانت أساس الذوق الأصيل، والمضمون النقيِّ.
المعرفةُ الأقربُ... والأبعدُ في آنٍ واحدٍ
نعيش اليوم مفارقة كُبرى؛ إذ صارت المعرفةُ أقربَ منْ أطرافِ الأصابعِ، ولكنّها أبعدُ عنِ الأرواحِ. في زمنِ السُّرعةِ هذا، ضاعتْ بوصلةُ التَّأمُّلِ، وصارت المدرسةُ معبرًا لتحقيقِ النَّجاحِ وتحصيلِ العلاماتِ، لا وطنًا مصغّرًا يبني الإنسان.
فكمْ منْ طالبٍ يحملُ هاتفًا ذكيًّا، لا يحملُ فيهِ حُبًّا لمدرستِهِ؟
وكمْ منْ معلّمٍ يُدرّسُ عن بُعدٍ، ولا يَعرفُ ملامحَ طلبتِهِ عن قُربٍ؟
المدرسةُ... بيتُ التعلُّمِ والإنسانِ
ولعلَّ من أهمِّ أولويّاتِ التربويّين اليومَ توفيرُ بيئةٍ مدرسيّةٍ آمنةٍ، نظيفةٍ، وجاذبةٍ، تخلو منَ المُهدِّداتِ الجسديّةِ والنفسيّةِ والصحيّةِ للطّالبِ، وتَمنحهُ الشّعورَ بالأمانِ، وتكونَ أساسًا في عمليّةِ تعلُّمِهِ وتواصُلِهِ مع أقرانِهِ.
كلُّ هذهِ الأشياءِ أدركناها وعِشناها حقيقةً؛ لأنَّ مدارسَنا كانتْ جاذبةً ومحفّزةً، مع فقرِها في كثيرٍ منَ الجوانبِ الماديّةِ، ولَكَ أنْ تَسألَ الآنَ:
هلْ فَقَدْنا المدرسةَ؟ أمْ فَقَدْنا الطّفلَ الّذي كُنّاهُ ذاتَ طابورٍ صباحيٍّ؟
وهلْ نحنُ بحاجةٍ إلى تطويرِ التّعليمِ، أمْ إلى ترميمِ القِيَم؟ هلْ فَقَدَ التّعليمُ روحَهُ حينَ تزاحمت المعلومات، وانطفأ السّؤالُ؟ هلْ صِرنا نُعلّمُ عقولًا ونَنسى الأرواحَ؟ هلْ صارَ التّعليمُ آلةً تُنتج الدّرجاتِ، لا مؤسسة تحقّق الأحلامَ؟
ما الذي يدفعُنا، نحنُ أبناءَ الجيلِ "الطباشيريّ"، إلى الحنينِ نحو مقاعدَ خشبيّةٍ تصدّعت أطرافُها، وجدرانٍ اختزنت ضحكاتِنا القديمة؟ لعلّها ليست المدرسةُ وحدها ما نفتقد، بل أنفسُنا حين كانت أكثرَ صدقًا، أكثرَ طفولةً، وأكثرَ دهشةً بالحياة.
من ذا الذي يُنكرُ أنّ المدرسةَ كانت حضنًا دافئًا، نلوذُ به من قسوةِ الحياة؟
في زواياها الضيّقة، ودفاترها المهترئة، ومقاعدها الخشبيّة الصدئة، وُلدت أحلامٌ كُبرى، وحكاياتٌ لا تُنسى. لم يكن "الطابورُ الصباحيُّ" مجرّدَ انتظامٍ ميكانيكيّ، بل كان نشيدًا داخليًّا لترتيبِ الفوضى في أعماقِنا. كنّا نغنّي للوطنِ من حناجرَ غضةٍ، ونُقسمُ على شرفِ الحبرِ والدفترِ والراية، وكأنّ قسمَ الصباحِ وثيقةُ عهدٍ بين الطفولةِ والرّجولة.
كانت المدرسةُ نغمةً عذبةً في سيمفونيّةِ الحياة، كلُّ ما فيها يُرتَّلُ على مقامِ الحنين: السّاحةُ الواسعةُ التي احتضنت خطواتِنا الأولى، السّبّورةُ التي وشت بأسرارِنا المكتوبة على استحياء بالطباشير، والمعلّمةُ التي كتبت أسماءَنا بحبرِ قلبِها قبل أن تخطّها على دفترِ الدّرجات. لم تكن تلك الأيامُ عابرةً في دفترِ الزمن، بل كانت جذورًا ضاربةً في أرضِ الذّاكرة، تُزهِرُ كلّما مالتِ الرّوحُ إلى ظلِّ الماضي، وكلّما سألتنا الحياةُ عن المعنى، عدنا إلى هناك... إلى أوّلِ معنى تعلّمناه.
لم تكن مدارسُ الأمسِ فارهةً في مرافقِها، ولا "ذكيّةً" في أجهزتِها، ولكنّها كانت أكثرَ ذكاءً في الوصولِ إلى قلوبِنا. كانت حصّةُ التعبيرِ نافذةً للبوحِ، والمعلّمُ أقربَ إلى مقامِ الأب، يُربّي قبل أن يُدرّس، ويهذّبُ قبل أن يُقيّم. هناكَ، حيثُ كانت الشطيرة تُقاسُ ببركة يد صنعتها من خزين البيت، والمقعدُ يُقاسُ بوفاءِ الجليس، والمدرسةُ تُقاسُ بقدرتِها على صنعِ الحنين.
تلكَ الأسئلةُ السالفة التي تُؤرّقُ كُلَّ مَن جَرّبَ طَعمَ المدرسةِ حينَ كانت الحياةُ تُدرَّسُ قبلَ المعارف، والإجابةُ، أيًّا كانتْ، فلا تَستغرِب إذا اشتقنا إلى تلكَ الفُصولِ الباردةِ، لتلكَ الأرصفةِ الطّويلةِ، لهذا المعلّمِ الّذي رَبّانا كما علّمَنا، ولتلكَ الأيّامِ الّتي كانتْ - رغمَ فقرِنا، وقلّة ذات اليد - غنيّةً بالحُبِّ والشّغفِ. كانَ فَقرًا في الوسائلِ، صاحبه غِنًى في الرّوحِ، وكانَ تَعبًا في الجسدِ، رافقه غرسٌ في النّفسِ زادَها انشراحًا.
لعلَّنا نُدركُ أنَّ ما نَشتاقُ إليهِ ليسَ الماضي بوصفه تاريخًا، بل إلى القِيَم الّتي حملُها الماضي، وخبأ كثيرًا منها في حقائبِنا البسيطة، وكفوفنا الصغيرة، وعيوننا الطامحة ... فكلُّ حنينٍ إلى المدرسةِ هوَ في حقيقتِهِ حنينٌ إلى أنفسِنا، في صورها العتيقة التي كنا عليها... تلك التي كانت أنقى، وأدفأ، وأقربَ إلى الإنسانِ الّذي يَستحقُّ أنْ يتعلّمَ ليصنع الحياةَ، ويخوض غمارها، لا ذلك الذي يقبع في هامش الدرجات وحدها مهما ارتفع سقفها.
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
22-05-2025 09:13 AM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |