31-05-2018 12:46 PM
سرايا - الدكتورة نسيمه مصطفى الخالدي
حين يكتب الأحياء عن وجعهم على رحيل أحبتهم يكتبون وهم يتمثلون أرقى ما ميز الباري عز و جل به الإنسان عن مخلوقاته كافة وهو الحزن, فالإنسان هو المخلوق الوحيد الذي قد يسكن الحزن في وعيه ووجدانه .وحين أمسكت بقلمي لأكتب عنك أخي الحبيب أبو خالد تمثلت أمامي طلعتك البهية ولم أكد أصدق أنني أكتب عن أخي الحبيب ...أستاذي الغالي.. الناقد الفذ ..فارس الكلمة كما كان يحلو لي أن أسميك . وأعلم أني قد أكتب كتباً وصفحات كثيرة لأوفيك بعضاَ من حقك ولكني أكتب هنا مزجية جزيل شكري وامتناني لابن خالي الاستاذ هاشم الخالدي الذي ضرب مثلاً في الشهامة ووفاء الرجال الكبار في مواقفه في فاجعتنا الأليمة ، الذي بادر ما أن علم بالمصاب الأليم إلى الذهاب إلى سويسرا ليقوم بما يترتب ، فكان نعم الأخ للحبيب الراحل ولنا جميعاً. وأجدني أمتثل لهدي سيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أتأمل المعاني العميقة للحديث القدسي الذي روي عن أبي هريرة في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( يقول الله تعالى ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسب إلا الجنة .) اللهم الهمنا الاحتساب والصبر والسلوان واربط على قلوب كل محبي أبي خالد وإنا لله وإنا له راجعون . وأستجمع بعضاً من قدراتي لأكتب غيضاً من سيرته العطرة التي تشتمل على كثير من الأبعاد الإنسانية التي تستحق التأمل وتصلح لأن تكون معيناً للعبرة و التفكر .
وأجدني أبدأ بالجانب الحبيب إلى قلبك الكبير أخي ابو خالد وهو بُرك بوالديك فلن أنس ماحييت كيف كنت تأتي من سويسرا مرة في كل شهر طيلة مرض والدنا لتقضي الليل كله دون أن يغمض لك جفن ساهراً إلى جانب سرير والدنا (تغمده الله بواسع رحمته) حين كان يرقد في مدينة الحسين الطبية ،وحين كنت أذهب لآخذ دوري منك كنت أقول لك : أبو خالد انت مرهق والآن دوري, كنت تشير لي بالنفي ثم تصمت لتقول "دكتورة، أنتِ عند والدي طول السنة .. أنا بدي استثمر كل دقيقة في بر والدي." وفي بداية مرض والدنا وحين كان يرقد في المستشفى الجامعي لجامعة الملك عبد العزيز في جدة حيث كنت أدًرس, كنت أنت أول من وصل للمستشفى ليفرح والدي برؤيتك ويتمتم مكرراً القول "الله يرضى عليك يا وليد ملء سمائه وأرضه". وأشهد أنك كنت مثالاً في الخدمة الراقية من ابن بار محب عطوف يخشى على أبويه من أدنى ما قد يكدر خاطرهما . ولم أرك في حياتي تبكي كما رأيتك تبكي يوم رحيل أخي الحبيب عصام ،ويوم رحيل والدنا الحبيب منذ خمس شهور.. تغمدكم الله بشآبيب رحمته وغفرانه وأسكنكم فسيح جناته... ومازالت ترن في مسمعي كلماتك الرائعة التي كنت تكررها مراراً قبل أي حوارأسري:" أفكار الست الوالدة أوامر غير قابلة للنقاش " . لقد كنت مدرسة في بر الوالدين أسأل المولى عز وجل أن يتقبل منك كل حركة وسكنة خالصة لوجهه الكريم .
أما صلتك للرحم فهي مثال عز نظيره فقد كنت مثال الأخ ..العم ..الخال الذي تبوأ عرش قلوب كل فرد من أفراد أسرتنا الصغيرة والكبيرة وكنت بحسك المرهف، وذكائك الوقاد تدرك مفتاح شخصية كل واحد فينا فتجيد فن التعامل معه وأنت الديبلوماسي الفذ ، فكنت قادراً على أن تجعل كل منا يشعر بأنه الأقرب إلى قلبك وصديقك الأثير . وكم كانت فرحتك غامرة حين كرمتني الجامعة الأردنية لتفوقي في مستوى الدكتوراه ولن أنس قصيدتك الرائعة التي دونتها لي وكانت في موضوع أُطروحتي ، فكانت قصيدتك حافزاً لي للمزيد. أما مسارعتك لإغاثة الملهوف فهي أُنموذج يُحتذى فحين كان يطلب منك أيٌ من معارفك -وهم كثر- أي نوع من المساعدة كنت تترك مائدة الطعام لتقول لي : "أنا أضع نفسي مكانه لو كنت مكانه لفعلت مثل ما فعل " ولم يكن يهدأ لك بال وتظل تبذل قصارى جهدك وكل ما أوتيت من قدرات حتى تنجح في مسعاك ،وحينها كان يتهلل وجهك فرحاً وتحمد الله جل وعلا على تيسير الأمور .
أما نجاحاتك وإنجازاتك المهنية فستظل مدعاة فخر و حافزاً لنا ما حيينا فقد اختارتك الامم المتحدة حين كنت تعمل في مقر الأمم المتحدة في نيويورك لتكون ضمن الفريق الذي عمل في التحقيق في نزاعات دولية في الصحراء الغربية، وفي روديسيا الجنوبية وانت الذي يتقن أربع لغات محادثة وكتابة ، وكنت تحدثني عن مشاركاتك في المؤتمرات الدولية في مناطق متعددة حين كنا نتبادل الأحاديث حول طبائع الناس في مناطق شتى .وكم كنت فخورة بك حين تم اختيارك أثناء عملك في مقر الأمم المتحدة في جنيف ا للإشراف على :
First United Nations' Glossary " The " والذي صدر حينها بلغات منظمة الأمم المتحدة الست ،وكم تناقشنا حول توظيف المهارات اللغوية في اختيار المصطلحات وكم حدثتني عن جهودك والدقة المتوخاة لإخراج ذاك المرجع على أفضل نحو، سائلة المولى عز وجل أن يكون كل عطائك في مجالات الخير للإنسانية في ميزان حسناتك .
أما صورتك عند معارفك و محبيك فقد عشت جزء منها حينما كنت أزورك برفقة الوالدة في فيرسوا في جنيف حين كنت تناقش زملائك الذين يأتون للسلام علينا فتصغي إلى آراء كل محاوريك ثم تخلص إلى فكرة عبقرية لم يفطن لها أحد من الحاضرين لقد كنت ديبلوماسياً موسوعياً في معرفتك وثقافتك في أي مجال تتحدث به . وحين كنت تكتب شعراً أو نثرا سواءً باللغة العربية أو بغيرها كنت تبدع في التحليل والاستنتاج والربط بالبراهين و الشواهد من آي الذكر الحكيم والسنة الشريفة . وحين كنت ترسل لي النسخة الأولى من مقالاتك وقصائدك لأقرأها قراءة نقدية كنت أشعر بالفخر لذلك ،وما كان يدور في خلدي أن ذات المقالات و القصائد ستصبح وجعاً يسكن في وجداني لا أقوى على تحمله ....
ولكننا لا نقول إلا ما يرضي ربنا ،و مما يخفف مصابنا في أخينا الحبيب ابو خالد أن المولى قد أكرمه بأن اختاره في الثالث من رمضان وأنه ُقبض صائماً بعد أن أدى صلاة الفجر إماماً لنجله الحبيب خالد ،ولا نزكي على الله أحدا ،داعين ربنا الكريم الرحيم أن يحشره من باب الريان مصداقاً لحديث نبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي ورد في الصحيحين ( إن في الجنة باباً يقال له الريان يدخل منه الصائمون يوم القيامة لا يدخل منه أحد غيرهم يقال :أين الصائمون فيقومون ، فيدخلون منه فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد.) وينبثق في مسمعي قول الحق جل وعلا((ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين )) اللهم يا حي يا قيوم رضينا بقضائك فصبرنا على بلائك واجعلنا ممن رضي بالقضاء وصبر على البلاء فوفي أجره بغير حساب .وسنظل ما حيينا ندعو بارئ الأكوان بحق أسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعل كل جهد وكل حركة بل كل سكنة للحبيب الراحل أبو خالد ِ في ميزان حسناته ،اللهم تغمد والدي وأخويٌ بواسع عفوك وغفرانك وامطر عليهم شآبيب رحمتك وأدخلهم فسيح جناتك يا رب العرش العظيم .