06-05-2017 08:43 AM
بقلم : م. ابراهيم عبدالحميد الرواشده
هناك في اقصى الجنوب الاردني وفي اقرب نقطة للحجاز من الشام تقع مدينة معان الضاربة جذورها في التاريخ ,. فحين اذكر معان التي احتظنتني في منتصف سبعينيات القرن الفائت تنهال على عقلي وقلبي امواج من الذكريات واطياف من المعاني وسيول من المشاعر ارتسمت في الوجدان وفي حنايا النفس .. فمعان بالنسبة لي وريثة دولة معين القحطانيه وايكة شعيب وصنو ادوم وماعون الانباط وواحة بني غسان . وأثرا لمرور الرسول الكريم فيها تاجرا ، ومركزا لولاية فروة الجذامي - اول امير عربي يتمرد على سلطان بيزنطه ويعتنق الاسلام ويعلن ولائه لدولة الرسول ويقدم روحه فداءا للاسلام مصلوبا على ماء عفرة كاول شهيد فكر وعقيدة -
معان بالنسبة لي استراحة جعفر وخالد وبقية جيش مؤته وكأني بابن رواحة وهو ينشد فيهم :
حذوناهم من الصوان سبتا
أزل كان صفحته اديم
أقمنا ليلتين على معان
فاعقب بعد فترتها وجوم
معان مغنى حسان بن ثابت حيث يقول :
لمن الدار اقفرت بمعان
بين عالي اليرموك فالخمان
ذاك مغنى لآل جفنة في الدهر
محلا لحادث الازمان ..
معان محطة بعث اسامه - لتحرير بلاد الشام العربيه من نير طغيان الاحتلال البيزنطي - وممر الفاروق لاستلام مفتاح بيت المقدس وطريق ابي الحسنين الى اذرح المجاوره من اجل التحكيم ، وفندق القوافل التجارية الذاهبة والآئبة من والى اليمن ومكة والشام عبر العصور .. معان مراح قوافل الحج الاسلامي الشامي والمغاربي عبر القرون ، وساراي سليمان القانوني ومحطة سكة الخط الحديدي الحجازي العثماني الحميدي ، وملتقى فرسان الصحراء والجبال - من الحويطات والشوابكه واللياثنه والنعيمات - .
معان عبر تاريخها ما كانت الا حضنا لكل عابري السبيل ممن ذكرتهم أعلاه فقد اقاموا فيها وشربوا من امواهها من ابار الضواوي والغدير والطاحونه وتفكهوا من بساتينها بمشمشها وقراسيتها ورمانها وربما حلوا ضيوفا عند شيوخها وأكارمها في دوواينهم واكلوا من مجللتها ورزحامضها وبخاريها وكعكها ثم ارتحلوا ، وربما استقر منهم الكثير حبا بمعان وأهلها العرب الأقحاح ليشكلوا معا نسيج أهل معان الحالي الذي صهر كل من تبفى فيها عبر التاريخ من شعوب الارض لتتشكل منهم عشائر معان الرئيسه : القرامصة وعيال الحصان والمحاميد في شاميتها و الكراشين والفناطسه والبزايعة وآل الخطاب في حجازيتها و العقايله و الرواد وأبودرويش والمحتسب و التلهوني والعوض في وسطها حتى انك لتجد بين افخاذ هذه العشائر من تعود جذوره للمغرب ومصر وغزة وفلسطين وسوريا والعراق وتركيا وبخارى والقفقاس والاكراد والارمن والبانيا . معان هي مركز اكبر محافظة أردنيه واول عاصمة للاردن حيث قصر الجد المؤسس وحيث صدرت " صوت الحق " كأول صحيفة في تاريخ الاردن كما شارك اهلها في معارك الأشراف ضد الاستبداد الكمالي الاتحادي . حين أكتب عن معان اكتب عنها وانا انبش ذاكرة الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي مستذكرا أحاديث الآباء عن صداقاتهم مع رجالاتها واطنابهم ونسائبهم وموظفيها وتجارها الذين كانوا ياتون الى الشوبك سواءا من رجال التربيه ام من المخمنين ام الدعاة ام من الضيوف ام من غيرهم , فلا يمكن ان يمر شريط ذكريات طفولتي دون ان استذكر الحملات الانتخابيه لنواب معان امثال يوسف العظم وابراهيم كريشان وعمر مطر ومنيب الماضي وغيرهم .. او دون ان اذكر اصدقائي في الابتدائي من عائلة البواب وعطالله صلاح او زيارات أنسبائنا من دار الشاويش او البحري .. يعود بي الشريط الى اول زيارة لي لمعان في سن الخامسه في مستهل الستينيات وذاك لعمل عملية جراحيه ، فما زلت اذكر غرفه المستشفى القديم وممره الطويل ورائحة الديتول وابرة الممرضه .. في تلك الغرفه أذكر منيره التي جاورتني فيها والتي لا اعرف من هي واين هي - وربما تكون في رحمة الله - واذكر من زارني فيها من الشوابكه المستقرين في معان كالحاج المرحوم طالب الشخيبي - خال والدي - او ابو بدر العسوفي او الدارسين في ثانويتها كالاستاذ ابن الخال محمود الزويري أطال الله عمره .
اما الزياره الثانيه فكانت في سن الثانيه عشره لكي اتصور من اجل العمل في النافعه في العطلة الصيفيه مع ورشة الحج حافظ في طريق الفجيج .. ففلافل تلك الزياره والذي اكلته لاول مرة في معان ما زال طعمه ورائحته تطغى على كل ما اكلته من فلافل الدنيا من عمان الى بكين , ولا يمكن لي ان اتذكر الستينيات دون ان اذكر ضجيج الاهل والاقارب وهياجهم وحوقلتهم وتساؤلاتهم واتصالاتهم من البريد للاطمئنان على احوال اهل معان بعد السيل الجارف الذي اجتاح المدينه في عام ستة وستين واودى بارواح العشرات من ابناء المدينه وكان حديث نشرات الاخبار من اذاعة المملكة الاردنية الهاشمية "من عمان والقدس" !! واما الزيارة الثالثه فكانت في اواخر آب من سنة 1974 للالتحاق بمدرسة معان الثانويه في الفرع العلمي لعدم توفره في الشوبك، حيث امضيت من عمري سنتين في معان ، سكنت فيها في مدينة الحجاج ..نختلط بقوافلهم القادمة من تركيا والعراق وسوريا وفلسطين وغيرها من البلدان ونقرا ما كان يوزعه علينا بعض الحجاج الاتراك عن حركة سعيد الدين النورسي . معان التي تستقبلك وانت قادم من قرى محافظتها بموقف الباصات فتقرع أذنيك اصوات الباعه والمتجولين والمتسوقين والمراجعين لتجد نفسك محاط بالاسواق والدكاكين والمطاعم بشارعي المحطه وفلسطين ومركز البريد ومجمع الدوائر الحكوميه ومسجدها الكبير المهيب الذي يتسع ربما لازيد من 3000 مصلي حيث تصدح سماعاته يوم الجمعة بخطب ودروس الخطباء المفوهين من امثال اساتذتي محمد محيي الدين والدكتور غالب الشاويش وغيرهم.معان تلك هي ذاكرة العلم والمعلمين في اعرق مدرسة ثانوية في الاردن حيث يلتقي ابناء المحافظه موجهين ومدرسين وطلابا تحت إدارة رجال تربويين أفذاذ بمستوى مدير التربية حينها محمد خطاب ومدير المدرسه علي جدوع قباعه.. اسماء تربويه لامعه عاصرتها لا زال عطاء اكثرهم مستمرا في مواقع قياديه كوزراءا او مدراء عامين او اساتذة جامعات ساترك ذكرهم للتعيلقات ..
إيه معان ! فما زلت أحن اليك والى اكل سكن الطلاب من يدي ابو عليده والحوراني .. وخاصة قلاية البندوره بالبيض والتي يتم اعدادها لطلاب التوجيهي كعشاء اضافي ليتمكنوا من السهر والدراسه, كنا نتسابق من المدرسه الى السكن لكي نفوز بطبق مقلوبة بفخذ الدجاج قبل ان تنتهي ولا نجد بعدها الا الاجنحه, احن الى عربة الهريسة بالسمن البلدي حين تاتي مساءا وتسبقها رائحتها الى السكن,احن لساندويشة الحمص من مطعم والد زميلنا عاطف حراره في شارع فلسطين حين كنا نقف لاجلها طوابيرا في ساعة الفرصه ..
معان يا بحرا من المعان .. أتذكر فيها اول احتفاء طلابي بيوم الارض ..
معان يا عذراء المدن ويا مدينة الاحتجاج ورفع الراس في وجه المنكر والفساد واي معتد على كبريائها فكاني بها تقول بلسان شاعرها درويش ابو درويش :
هذي معان وما نبيعه بالرخيص
مثل الجواهر غاليات اثمانها
هذه معان المدينة التي لم تعرف دور السينما , ومعان الشهداء وعلى راسهم منصور كريشان الذي قال فيه شاعر الاقصى الاديب الاريب المربي ، نائب معان المشاغب المرحوم يوسف العظم :
قطع العهد ان يموت شهيدا
او يعود الاقصى ويمحو الدنيه
ذاك منصورنا به نتباهى
فلتفاخر به معان الابيه
معان يا احلام الشباب .. فيا ليت احلام الشباب تعود كما قال عرار
لتعود احلام الشباب ضحوكة
كالزهر يبسم في ربوع معان
لا اريد لمشاعري وذكرياتي عن معان ان تنتهي تحت ضغط المساحة الفيسبوكيه ووقتها .. فقبل ان اترك هذه البصمة على صفحتي فلا بد لي أن اقف في دبكة تسعاوية او في احد صفي سحجة عرس وفرحة معانيه ، لازجل مع شيوخها وامامي الحاشي ملوحا بسيفه لأقول :
أول القول ذكر الله
والشياطين نخزيها
سايق عليك النبي -والمصطفى جدك
خداك من الورد ولا الورد من خادك
قوم العبوا يا شباب الموت ماعنو
والعمر شبه القمر ماينشبع منه
الغي ماهو حبكة – حبكة مناديلي
الغي جر المناسف للاجاويدي
خاتم حبيبي وقع بالبير لوه رانه
والي سمع رنته مرهونه لال الجنه
صبرت صبر الخشب تحت المناشيري
صبرت لما استوى بيض العصافيري
يا السمر لا تحردن منتن على بالي
والبيض جو المباني غيرن حالي
والبكرج ياللي انكسر رنت فناجينه
شيخن بلا عزوة قلت مراجيله
يا طارد الذيب هرعي الذيب بالوادي
ومنقرشات الحلى صيدات الاجوادي
والله لوما ييقولوا البنت عشاقه
لفتح قليبي واشرع للهوى طاقه
يا بو رشيدي قلبنا اليوم مجروح
جرحا غميقا بالحشى مستظلي
جابو الطبيب ومددوني على اللوح
قلت برخاوى ماعاش اللي يذلني
لا تحسبو كثرتكم تغلب شجاعتنا
بالسيف يا صاحبي نحمي جماعتنا
انتم تعزو الرفق ولا تخلونه
حنا نعز الرفق وارواحنا دونه
انتم تعزو الرفق يلي بلا رجالي
حنا الرفق عندنا مثل الذهب غالي