27-12-2015 09:57 AM
سرايا - سرايا - (أبدا لم نكن اطفالا) هو عنوان الفيلم التسجيلي الطويل الذي وقعه المخرج المصري محمود سليمان وظفر بجائزتين رفيعتين في مهرجان دبي السينمائي الدولي الأخير.
قدم سليمان خريج المعهد العالي للسينما بالقاهرة فيلمه هذا بعد خبرة ومراس في صنع الأفلام المختلفة التي تحاكي وقائع في البيئة الاجتماعية والسياسية والثقافية في مصر، حيث ظلت اعماله المعنونة: (يعيشون بيننا)، (النهار ده 30 نوفمبر)، (ازرق واحمر )، (أحيانا)، و(ابدا لم نكن اطفالا)، تمتلك جميعها رؤى واشارات بليغة مزنرة بأسلوبية جمالية ذات منحى انساني فطن وبليغ.
يسرد المخرج محمود سليمان في فيلمه الجديد حكاية أسرة مكوّنة من أم وأربعة أبناء، يعانون القسوة والألم جراء تدبير أمور حياتهم بعد انفصال الأب عنهم ليتزوج من فتاة شابة، حيث تتبع الكامير محطات ومواقف في حياة افراد الأسرة على مدى أربع سنوات، ويكشف عن الكثير فيما يدور دواخلهم من آمال وتطلعات رغم معاناتهم من حالتي الفقر والتهميش اضافة الى عيشهم على موارد بسيطة، فالأم تعمل في مهنة شاقة تكاد تكون حكرا على الرجال هي جلخ السكاكين وتعاني من ثقل ادوات مهنتها التي ورثتها عن زوجها الذي كان يعمل بذات المهنة، وهناك ابناءها الفتيان الذين يكابدون الحياة وكانهم منبوذون من مجتمعهم، فغالبا ما يقيمون خارج بيت الأسرة بحكم متطلبات عملهم الشاق كعمال موسميين او في سياقة دراجة التوك توك بين حين واخر وفي اغلب الاحيان تائهين دون ماوى.
يصور الفيلم احداثه القاسية والصعبة على نحو سوداوي قاتم، كما يعمل على تلطيف حدة احداثه القاسية بايقاعات من الموسيقى والاغنيات والدعابات السائدة في بيئة العشوائيات وهناك حركة الكاميرا وتوظيف الالوان والراوي في تسلسل الحكايات التي تنبش بالواقع وتفاصيله على خلفية من التحولات السياسية التي تعيشها مصر.
ترصد كاميرا الفيلم مشوار المرأة اليومي التي تعمل في سن سكاكين وقواطع الجزارين من خلال آلة ثقيلة مخصصة لهذه الأغراض وهي تتنقل دائما على زبائن في بيوت ومحال وأزقة وحارات وأرصفة مثلما تظهر عين المخرج بحدس وتعاطف المرأة أيضا إلى جوار أفراد أسرتها من الأطفال داخل البيت البسيط متوقفة على تلك الأحلام البسيطة سواء في مطالعة دروسهم أو متابعة برامج التلفزيون عبر إحدى زوايا مقهى مقابل لبيت الأسرة، في أجواء من الواقعية الزاخرة بأحداث وشخصيات مثقلة بهموم وطموحات تشغل عيشهم اليومي.
فعلى رغم الصورة القاتمة لمصائر شخوص العمل التي يوردها الفيلم مع نزول عناوين الفيلم الختامية، يتبن للمشاهد ان واقع الأسرة ما زال كئيبا وصعبا وقاسيا ويزداد قتامة فهناك احد الابناء يستنجد بالمخرج عبر الهاتف الجوال ان يساعده ولو بالقليل لينقذه من مصير داهم قد يجلب الضرر على المجتمع باسره.
يبرز الفيلم شخوصه في أكثر من موقف وهم يعيشون على هامش المدينة ويحاورهم المخرج بتلقائية فيما هم يردون على اسئلته باجابات صريحة اشبه بالبوح والمكاشفة، وهي تختصر مشكلات المجتمع المصري اليومية وما يحيط بها من آمال وآلام ولحظات من الاحباط داخل توليفة من سلوكيات الأفراد والعلاقات لدى حالات تؤشر على كثير من الهموم الإنسانية في الحياة اليومية.
كما ينطوي العمل على جملة من الدلالات السياسية والاجتماعية كما انه ينأى عن طرح خطابية زاعقة أو مباشرة تتوسل عواطف المتلقي، لكنه يتكيء على أسلوبية جمالية بديعة مفعمة بمفردات من اللغة السينمائية وهي تعاين جملة من الأحاسيس والمشاعر النبيلة تجاه أولئك البسطاء الذين كدّهم الحرمان والقسوة والبطالة والفقر والخوف.
(أبداً لم نكن أطفالاً) صورة صادقة وصادمة وايضاً، معبرة عن حياة بشر نسيهم الزمن وباتوا أسرى لواقع شديد الثقل والوطأة هو في النتيجة إضافة نوعية للمنجز الإبداعي لمخرجه محمود سليمان ولتيار السينما العربية المستقلة في التعبير عن مناخ إنساني عذب من داخل تفاصيل مفردات الحياة اليومية البسيطة.
لقد برع محمود سليمان المخرج الشاب الآتي الى فضاءات الصورة السينمائية من عوالم كتابة القصة القصيرة في تصوير موضوعه بتكثيف للوقائع والعلاقات في اتكاء على بنية قوية وحقيقية من الصور والأحداث والتكوينات لموضوع فيلمه الذي يبدو امتدادا لواحد من افلامه القصيرة الأولى (يعيشون بيننا)، حيث اعاد تشييده بذات الشخوص على نحو دقيق في تتبع مصائرهم ونجح في اعادة تصويرهم بأسلوبية تحتشد بمفردات التشويق واللقيات السمعية والبصرية الأثيرة وهو ما منح الفيلم كل هذا البهاء والنضارة والقدرة على التأثير والإقناع.