05-11-2014 10:52 AM
سرايا - سرايا - اعتاد المتحدثون كلما حلت مناسبة الهجرة النبوية، على تجديد القول في أحداث هجرة النبي عليه الصلاة والسلام وصاحبه أبي بكر الصديق من مكة المكرمة إلى المدينة، ذلك الحدث التاريخي المفصلي في السيرة النبوية، بما أتاحه للنبي القائد وصحبه الكرام من حرية الدعوة والعبادة، وإقامة الكيان الحامي للدعوة والحامل لها إلى سائر أصقاع الدنيا.
تلك الهجرة المكانية تقابلها هجرة دائمة في عالم النفس والقلب، فالمؤمن لا ينقطع في مسيره إلى الله، وسلوكه إليه، عن الهجرة حيث يحب مولاه، فهو يهجر المعاصي والذنوب، ويطير إلى الطاعات والقربات، وينأى بنفسه عن مجالس الغفلة، ويشد الرحال إلى مجالس العلم والذكر، ليرتع في رياض الجنة، ويزكي نفسه في محاضن العلماء الربانيين.
من أعظم صور الهجرة التي يحسن بالمؤمن القيام بها، وهو يتفقد أحوال إيمانه، ويتفحص صدق تدينه وتوجهه إلى الله، هجرة أحوال الغفلة التي تبعده عن الله، فكم يكون الواحد منا محجوبا عن ربه، وهو يعيش حالة الغفلة، وكم نخسر من الأجور والفضائل ورفيع الدرجات، حينما نستسلم للغفلة التي تداهم أغلب الخلق، ولا يسلم منها إلا من وفقه الله واصطفاه، فيقظة القلب الدائمة، تدفع صاحبها إلى المحافظة على الصلوات في أوقاتها، وملازمة الأذكار في كل حين، والتلذذ بمقامات العبودية الخالصة لله وحده.
حينما يتأمل المؤمن ذلك المشهد الذي قصه الله علينا في القرآن الكريم، للإنسان يوم القيامة، بعد أن ينكشف الغطاء ويعاين الحقائق ماثلة أمام عينية، ليكتشف أن الغفلة هي التي كانت تصرفه عن فعل ما ينفعه في ذلك اليوم، كما في قوله تعالى: }لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ{ (ق: 22). إن التفكر في ذلك المآل يحمل الإنسان على التنبه واليقظة والحذر من المصير إلى ذلك الحال، ما يدعوه إلى الاجتهاد في مفارقة حال الغافلين، والانغماس في بيئات الصالحين المخبتين.
إن مما يعين المؤمن على هجرة المعاصي والذنوب، والإقبال على الطاعة وملازمة العبادة، تجديد التوبة ودوام الاستغفار، فمن صفات المؤمنين استشعارهم التقصير الدائم في جنب الله، لعدم قيامهم بواجب الشكر التام على عظيم آلائه، وواسع عطائه، فكيف إذا ما تلبس الواحد منهم بذنب، أو ألمَّ بمعصية؟ فإنه يسارع حينها إلى التوبة من ذلك الذنب كما حكى القرآن عنهم في قوله تعالى: }وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ{ (آل عمران: 135). فهذه من صفات المتقين كما في الآية التي قبلها }وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ{.
وقد وصف القرآن المتقين بأنهم إذا ما واقعوا معصية، بإغواء الشيطان ووسوسته لهم، فإنهم سرعان ما يرجعون ويتذكرون، معترفين بخطئهم، مستغفرين من ذنبهم، يقول تعالى: }إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ{ (الأعراف: 202). وسيد الاستغفار إنما سمي بذلك لما تضمنه من معاني إقرار العبد واعترافه بذنوبه، واعترافه بإنعام الله عليه ".. أعوذ بك من شر ما صنعت، وأبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت".
يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي في تفسيره: "ولما كان العبد لا بد أن يغفل وينال منه الشيطان، الذي لا يزال مرابطا ينتظر غرته وغفلته، ذكر تعالى علامة المتقين من الغاوين، وأن المتقي إذا أحس بذنب، ومسه طائف من الشيطان، فأذنب بفعل محرم أو ترك واجب - تذكر من أي باب أُتِيَ، ومن أي مدخل دخل الشيطان عليه، وتذكر ما أوجب اللّه عليه، وما عليه من لوازم الإيمان، فأبصر واستغفر اللّه تعالى، واستدرك ما فرط منه بالتوبة النصوح والحسنات الكثيرة، فرد شيطانه خاسئا حسيرا، قد أفسد عليه كل ما أدركه منه".
ومما يسهل هجرة القلوب إلى علام الغيوب، ويجعلها حالة مستدامة الحرص على اختيار الصحبة الصالحة، التي تشكل حاضنة إيمانية رافعة، تحرض المؤمن وتحثه على فعل الخير، وملازمة التقوى، (وخير الأصحاب من إذا ذكرت الله أعانك، وإذا نسيت ذكرك)، وفي الحديث "المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل". الصحبة الصالحة ترفع من همة المؤمن، وتحرضه على فعل الطاعات، وتهيئ له أجواء إيمانية يسود فيها التنافس بين المؤمنين، بالمسارعة إلى الخيرات، والمسابقة إلى فضائل الأعمال، وكريم الأفعال.
ولئن كان إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام قد فارق أرض السوء، وهاجر إلى الأرض المباركة، (وقال إني مهاجر إلى ربي)، فإن المؤمنين يحرصون على مفارقة البيئات الفاسدة، والابتعاد عن مجالس الغفلة، ويهاجرون في كل يوم إلى بيئات الصالحين في المساجد وحلقات العلم والذكر، لتكون عونا لهم على لزوم الاستقامة، والإكثار من العمل الصالح والمواظبة على فعله وإتيانه.
درس الهجرة يُذكر المؤمنين أنهم في حالة سفر دائم، وأنهم راحلون مهاجرون من هذه الدنيا، فلتكن هجرة قلوبهم دائما باتجاه ما يرضي مولاهم عنهم، ويرفع درجاتهم عنده، وينير لهم حياتهم بعد مفارقتهم الدنيا، وانتقالهم إلى حياة البرزخ، ثم قيامهم من قبورهم لرب العالمين، ليدركوا حينها قيمة تلك الهجرة الإيمانية التي كانوا يعيشونها بقلوبهم وأرواحهم، ليجدوا أنوارها تسعى بين أيديهم وبأيمانهم.
}يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ{.