13-10-2014 10:54 AM
سرايا - سرايا - بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، الله علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
من يغيب عن الجهاد و يؤثر المقام في البيت فلابد من أن يختلق الأعذار الواهية :
أيها الأخوة الكرام، مع الدرس الثامن والخمسين من دروس سورة التوبة، ومع الآية الرابعة والتسعين وما بعدها وهي قوله تعالى:
﴿ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾
أيها الأخوة الكرام، لا زالت هذه الآيات في سورة التوبة تتحدث عن المنافقين، ولعل سورة التوبة من أبرز السور التي عالجت موضوع النفاق بشكل تفصيلي.
فهؤلاء المنافقون حينما يغيبون عن الجهاد، ويؤثرون المقام في بيوتهم، مع أهلهم وأولاده، ولا يجشمون أنفسهم مشقة مشاركة المؤمنين في الجهاد، هؤلاء من أجل الحفاظ على مكانتهم لابد من أن يختلقوا الأعذار الواهية غير الصحيحة.
هم:
﴿ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ ﴾
أيها المؤمنون، يا أصحاب رسول الله، حينما تعودون من الجهاد، إلى بلدكم المدينة، والمنافون لم يشاركوا معكم لابد من موقف ترميمي، من أجل الحفاظ على مكانتهم، هم:
﴿ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ ﴾
حينما ترجعون إليهم من الجهاد.
﴿ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ ﴾
قال: آمنت به، أي اعتقدت به، آمنت له أي صدقته، الإيمان بالله شيء والإيمان مع الله بمعنى آخر.
﴿ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ ﴾
أي لن نصدقكم، أنتم كاذبون.
الإنسان الكاذب كذبه يدل عليه والمؤمن أوتي فراسة ينظر بنور الله :
بالمناسبة: المؤمن من أبرز علائم إيمانه أن القضية التي فيها آية قرآنية واضحة لا يخضعها للمناقشة إطلاقاً، المؤمن الصادق فيما ذكر الله في كتابه الكريم من حكم متعلق بموضوع هذا الموضوع غير قابل للبحث، الدليل:
﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ ﴾
[ سورة الأحزاب الآية: 26]
وهذه ما كان من أشد صيغ النفي، هذا اسمه نفي الشأن، قد تقول لإنسان محترم: هل أنت سارق؟ مستحيل أن يقول لك: لا، يقول لك: ما كان لي أن أسرق، مستحيل وألف ألف مستحيل لا أفكر، ولا أقر، ولا أشجع، ولا أرضى، ولا، ولا، بعض العلماء عدوا أكثر من عشرة أفعال يتضمنها هذا النفي، يقول: ما كان لي أن أسرق.
فالله عز وجل في هذه الآية:
﴿ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ ﴾
يقدمون اعتذاراً واهياً، والاعتذار مكشوف، سبحان الله! الإنسان الكاذب كذبه يدل عليه، والمؤمن أوتي فراسة:
((اتَّقُوا فِراسَةَ المؤمن، فإِنه يَنظُرُ بنورِ اللّه ))
[أخرجه الترمذي عن أبي سعيد الخدري]
فالإنسان بإمكانه أن يخدع الناس لبعض الوقت، أو أن يخدع بعض الناس لكل الوقت، أما أن يخدعهم جميعاً لكل الوقت فهذا مستحيل، فكيف إذا كانوا أصحاب رسول الله؟ المؤمن معه نور، والدليل:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ ﴾
[ سورة الحديد الآية: 28]
الصفة الصارخة بالمؤمن بقلبه نور، هذا النور يريه الحق حقاً والباطل باطلاً.
الإنسان هو المخلوق الأول رتبة في الكون :
الإنسان بالمناسبة كائن متحرك، ما الذي يحركه؟ الحاجة إلى الطعام والشراب، حفاظاً على وجوده كفرد، هذه أول حاجة، الحاجة إلى الزواج، حفاظاً على وجود النوع، الثالثة الحاجة إلى تأكيد الذكر، تأكيد الذات، الإنسان لا يكفي أن يكون موجوداً، ويأكل ويشرب، عنده حاجة كبيرة جداً، هذه الحاجة لعل الله خلقها فيه، لأنه قَبِل حمل الأمانة، لما قَبِل حمل الأمانة- والآن سأذكر فكرة خطيرة جداً- لأنك أيها الإنسان حينما عرض الله على البشر الأمانة قبلت أن تحملها، فلما قبلت أن تحملها أصبحت المخلوق الأول عند الله، والدليل:
﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ ﴾
[ سورة الأحزاب الآية: 72]
هل يغيب عن ذهنك أنك المخلوق الأول؟ المخلوق الأول رتبة في الكون،
﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ ﴾
على كل المخلوقات،
﴿ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ ﴾
الآية الكريمة تقول:
﴿ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ﴾
[ سورة الأحزاب]
ممكن أن تقرأ الآيات قراءة استفهامية، هل كان مخطئاً؟ لا.
إذا أب عنده عشرة أولاد، قال: من يأتي بالدكتوراه من أمريكا أعطيه المعمل كله، فقال له أحدهم: أنا، هذا الابن الطموح الذي عنده آفاق واسعة جداً، هل كان مخطئاً بهذا العرض؟ لا، أما إذا ذهب إلى هناك ولم يدرس، فما له شيء عند أبيه، الآن صار ظلوماً جهولاً.
الفلاح و النجاح :
هذه الآية تقرأ بطريقتين:
﴿ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ﴾
لا، لم يكن ظلوماً جهولاً حينما قبل حمل الأمانة، لكنه إذا لم يحملها:
﴿ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ﴾
تقرأ قراءة استفهامية، وقراءة إقرارية، فهذا الإنسان هو المخلوق الأول، والله كلفه بحمل الأمانة، والأمانة نفسه التي بين جنبيه سلمه الله إياها، والدليل:
﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾
[ سورة الشمس]
كلمة الفلاح بالقرآن دقيقة جداً، نحن نستخدم كلمة النجاح، النجاح أن تنجح في جمع المال مثلاً، أن تنجح في تسلم منصب رفيع، أن تنجح في قيادة مجموعة من الناس، هذا نجاح، لكن الفلاح أن تحقق الهدف الذي خلقت من أجله، الفلاح أن تجمع بين الدنيا والآخرة، أن تكون في الدنيا طائعاً، وفي الآخرة متفوقاً، فهذا الفلاح له معنى دقيق جداً، نجاح شمولي، نجاح من بدايات الحياة الدنيا وإلى أبد الآبدين، نجاح بأعلى درجة من مستويات النجاح، نجاح في تحقيق الهدف الذي خلقت من أجله، يسمى فلاحاً.
المؤمن لا يخضع أي موضوع فيه حكم إلهي للمناقشة إطلاقاً :
هؤلاء المنافقون يعتذرون حفاظاً على مكانتهم، لأن الإنسان عقل يدرك، وقلب يحب، وجسم يتحرك، غذاء العقل العلم، وغذاء القلب الحب، وغذاء الجسم الطعام والشراب، فحينما يعبر عن محبته للحق مثلاً، محبته للدين، بهذا يرتقي عند الناس، فالمنافق هو في حياته الخاصة لا يطبق شيئاً من الدين، متلفت كالكافر، لكن يريد مكسباً اجتماعياً، أن يكون مع المؤمنين في مكانتهم، وفي مكاسبهم، فهو ينافق لهم.
﴿ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ ﴾
الجواب من الصحابة:
﴿ قُلْ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ ﴾
أي لن نصدقكم،
﴿ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ ﴾
أقول مرة ثانية: أي موضوع فيه حكم إلهي المؤمن لا يخضعه للمناقشة إطلاقاً.
في بعض المؤتمرات يقال: عندنا مجموعة موضوعات لا يمكن أن تدخل في برنامج المؤتمر، هذه مسلمات، ممنوع أن تكون مكان مناقشة.
وأنا أقول: أي موضوع ذكره الله في القرآن بحكم قطعي هذا الموضوع غير قابل للمناقشة إطلاقاً، ما كان الله،
﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ ﴾
﴿ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ﴾
[ سورة الأحزاب الآية: 36]
الله أمر بحجاب المرأة، هذا الموضوع غير قابل للبحث، بمعنى لو أنها كانت سافرة هي نصف المجتمع، هناك حجج واهية تطرح في بعض المجلات، أنت كمؤمن ما دام هناك حكماً إلهياً بقضية معينة، واضحاً، قطعي الدلالة، هذه الأحكام قطعية الدلالة في القرآن لا يمكنك كمؤمن أن تدخلها في المناقشة،
﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ﴾
فهذا الذي جعل المؤمنين يقولون:
﴿ لَا تَعْتَذِرُوا ﴾
الله عز وجل أخبرنا عنكم، إنكم منافقون، إنكم كاذبون، إنكم تريدون أن تجمعوا بين مكاسب المؤمنين وتفلت الكافرين:
﴿ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ ﴾
الإنسان مخلوق أول مكرم و مكلف :
بالمناسبة: أنت أيها الإنسان مخلوق أول، والآية معروفة:
﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ ﴾
وأنت مخلوق أيضاً مكرم:
﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ﴾
[ سورة الإسراء]
وأنت المخلوق المكلف، مكلف أن تعبد الله.
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾
[ سورة الذاريات]
فأنت أولاً: مكرم، وثانياً: أول، وثالثاً: مكلف، فأنت مكلف بعبادة الله عز وجل، والعبادة طاعة طوعية، ممزوجة بمحبة قلبية، أساسها معرفة يقينية، تفضي إلى سعادة أبدية.
هؤلاء:
﴿ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ ﴾
المؤمن أكرمه الله بالوحي، وحي السماء الحق المطلق، ومعه سنة النبي هي شرح لهذا الوحي، معه الكتاب والسنة، فأي موضوع يتناقض مع الكتاب والسنة يركله بقدمه، أما أنه يصدق كل شيء فيكون إنساناً أحمقاً.
العمر لا يتسع لاستيعاب الباطل ولكنه يكفي لاستيعاب الحق :
الحقيقة الإنسان إذا عاش كل عمره من أجل أن يتطلع على الثقافات المتنوعة لا يكفي عمره، من أجل أن تحيط بثقافة جهة معينة، أو أمة معينة، أو عصر معين، تحتاج إلى عشرات السنين، فالعمر لا يتسع لاستيعاب الباطل، ولكنه يكفي لاستيعاب الحق، بين نقطتين يمر خط مستقيم ، ممكن أن تمرر مليون خط منحن أو منكسر، بين نقطتين، فالحق واحد لا يتعدد، فإذا استوعبته العمر يكفي لاستيعاب الحق، ما سواه باطل، أما هناك إنسان يضيع ثلاثين سنة في استيعاب عقيدة طائفة معينة، عمرك ثمين جداً، يجب أن تمضي هذا الوقت باستيعاب الحق الذي خلقت من أجله، أما استيعاب الباطل فشبه مستحيل، بل مستحيل وألف ألف مستحيل، الباطل متنوع.
أوضح مثل: نقطتان هناك خط مستقيم واحد بينهما، أما ممكن أن ترسم مليون خط منحنٍ أو منكسر بينهما فهذا الباطل، الباطل متنوع، لذلك الآية الكريمة:
﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ﴾
[ سورة الأنعام الآية: 135]
فجاء الباطل جمعاً دائماً، آية ثانية:
﴿ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ﴾
[ سورة المائدة الآية: 16]
ما قال إلى الأنوار، نور واحد وفيه ظلمات بعضها فوق بعض.
إذاً المؤمن معه وحي السماء، معه الحق المطلق، وحي السماء حق مطلق، وشرح النبي المعصوم شرح مطلق.
(( تَركْتُ فيكُمْ أَمْرَيْنِ لنْ تَضِلُّوا ما تَمسَّكْتُمْ بهما: كتابَ الله، وسنّة رسولِهِ))
[أخرجه مالك عن بلاغ بن مالك]
أي ما صح من هذه السنة.
الجهة الصانعة هي الجهة الوحيد التي ينبغي على الإنسان أن يتبع تعليماتها :
﴿ لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ ﴾
المؤمن يستوعب ما قاله الله للمؤمنين والكفار والمنافقين، فمعه تقييم إلهي، أنت أحياناً عندك آلة غالية جداً، لكن معها بطاقة، أو معها كتيب من معمل الصانع، أصح فكرة وأصح معلومة عن هذه الآلة ما جاء في هذا الكتيب، لأنها من عند الصانع، بل إن الجهة الصانعة هي الجهة الوحيد التي ينبغي أن تتبع تعليماتها، والدليل قوله تعالى:
﴿ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ﴾
[ سورة فاطر]
الله عز وجل هو الخبير، خبير بما تعلمون.
بطولة الإنسان ألا يسمح للخواطر السيئة أن تسيطر عليه :
﴿ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ ﴾
الله عز وجل يعلم حقيقة هذا الإنسان، لكن هو لا يحاسب إلا على العمل الذي يأتيه الإنسان في الدنيا، علم الله الأزلي لا يكون سبب هلاك أو شقاء أو سعادة، أما السبب الحقيقي فهو العمل، فالإنسان يأتي إلى الدنيا كي يعبر عن ذاته بخير أو بشر، في هذا الخير الذي انقلب إلى سلوك، إلى عمل، هنا يحاسب الإنسان عليه، وهذا من فضل الله علينا، معنى ذلك أن هناك خاطر سيئ لا تحاسب عليه، أي خاطر مهما كان سيئاً لا تحاسب عليه، لكن تحاسب على العمل، لكن هناك ملاحظة: هذا الخاطر السيئ إن لم ترفضه ينقلب إلى سلوك، لو أنك قبلته تابعته تفاجئ بعد وقت أنه أصبح سلوكاً، فالبطولة أن الإنسان لا يسمح للخواطر السيئة أن يستمر بها.
الأمور بنواياها :
﴿ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾
الذي عمل العمل هو أدرى به، فما معنى أن الله عز وجل ينبئ هذا الإنسان بما كان يعمل؟ ينبئ الإنسان بخلفيات هذا العمل، بأهداف هذا العمل، بنوايا هذا العمل، العمل له شكل ظاهر، وله خلفيات.
إذا أنت لا سمح الله ولا قدر إنسان له عدو فقدم له طعاماً نفيساً جداً وهو يعلم علم اليقين بأن هذا الطعام يؤذيه، يحاسب كإنسان مؤذ، قدم طعاماً نفيساً، هو طبيب، قدم طعاماً نفيساً، يعلم أن هذا الطعام يفاقم مرضه، فهو لا يحاسب على أنه قدم له طعاماً، هدية،لا، قدم له شيئاً يؤذيه فالأمور بنواياها، والحديث المتواتر الأول:
((إِنما الأعمال بالنيات ))
[أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن عمر بن الخطاب]
أحياناً تعطي ابنك دواء مراً، وتجبره عليه، لك أجر كبير، مع أنه مر، وقد يقدم إنسان طعاماً لعدوه نفيساً لكنه يؤذيه، فالعمل يقيم بنيته فقط، والنية لا يعلمها إلا الله:
﴿ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾
﴿ سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾
[ سورة التوبة]
الله عز وجل طليق الإرادة :
النقطة الدقيقة بإعجاز القرآن الكريم أن الله يقول:
﴿ سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ ﴾
هم لم يحلفوا بعد، الله عز وجل قال:
﴿ سَيَحْلِفُونَ ﴾
لو أنهم فكروا قليلاً ولم يحلفوا لأبطلوا هذه الآية، ولكن الله كما يقال طليق الإرادة، هم قيل لهم قبل أن يحلفوا سوف تحلفون، فإذا لم يحلفوا ألغوا الآية، لكن هذا الشيء لا يمكن إلا أن يكون، لأنه من عند الله عز وجل.
﴿ سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ ﴾
﴿ انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ ﴾
أي رجعتم إليهم، بعدما انتهى الجهاد وعاد المجاهدون إلى المدينة.
﴿ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ ﴾
هنا لها معنى دقيق:
﴿ لِتُعْرِضُوا ﴾
عن اتهامهم بالنفاق
﴿ لِتُعْرِضُوا ﴾
عن لومهم،
﴿ لِتُعْرِضُوا ﴾
عن محاسبتهم،
﴿ لِتُعْرِضُوا ﴾
عن ذمهم.
﴿ سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ ﴾
فالله عز وجل قال طمئنوهم،
﴿ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ ﴾
دعه وشأنه، الله يحاسبه، الإنسان المؤمن يترفع عن الدخول في المتاهات، والمناقشات، والعلل التي وراءها متاعب كثيرة، هو عرف الله عز وجل فانضبط بمنهجه، وأحسن إلى خلقه، فسلم وسعد في الدنيا والآخرة، هذا دعه وشأنه.
المنافق إنسان كذاب يأخذ ما ليس له و يوقع بين الناس :
يقول الله:
﴿ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ ﴾
أما الشيء المخيف فقال:
﴿ إِنَّهُمْ رِجْسٌ ﴾
أحياناً يكون عندك ثوب نجس، أي ملوث بالنجاسة، تغسله فيطهر، فالنجس صفة لشيء أصابته نجاسة، أما النَجس فهل يطهر؟ مستحيل، عين النجاسة، فهذا ملمح باللغة دقيقة جداً.
قال:
﴿ إِنَّهُمْ رِجْسٌ ﴾
هم عين النجاسة، عين النجاسة لا تطهر، المادة القذرة هذه تزيلها، أما هي نفسها فتطهر؟ هي القذر بنفسه.
﴿ إِنَّهُمْ رِجْسٌ ﴾
معنى رجس كذاب، منافق، يأخذ ما ليس له، يحتال، يوهم الناس، يوقع بين الناس، مصلحته قد تفرق، فيفرق بين الأم وابنها، دائماً الطرف الآخر خططه كلها للشعوب الأخرى أضعاف، قهر، إذلال، إفساد، إشاعة الفحشاء، شيء واضح جداً، فالغرب عندما يحتل بلداً يريد أن يشيع فيه الفحشاء، والإنسان حينما يشيع الفحشاء في بلد يسهل عليه حكمه، المؤمن قوي، المؤمن كريم، عزيز، أما المنحرف أخلاقياً ضعفت شخصيته فأصبح تابعاً.
المنافقون هم عين النجاسة :
لذلك في بعض الأحاديث الدقيقة جداً أنه بآخر الزمان هناك أقوياء، وطغاة، ورجالهم معهم سياط، يجلدون فيها الناس، الحديث معروف لكن الحديث نفسه له تتمة:
((ونِساء كاسيات عاريات))
[أخرجه مسلم عن أبي هريرة]
الشيء الذي يلفت النظر لماذا جمع النبي الكريم رجال أقوياء يجلدون الناس بسياطهم مع نساء كاسيات عاريات؟ هذا الجمع استنبطه بعض العلماء أن الحاكم القوي أحد أسباب قوته أن يشيع الفحشاء في مجتمعه، حتى يضعفوا فينصاعوا لحكمه، طبعاً حكم الظالم أقصد.
إذاً:
﴿ سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ ﴾
أي لا يوجد صفة أبلغ من هذه الصفة، هم عين النجاسة، نجاسة أخلاقية، الكذاب نجس، المنافق نجس، المحتال نجس، الذي يبالغ في الأمور حتى يبتز أموال الناس نجس، فالإنسان الكامل كما قال بعضهم: مكارم الأخلاق مخزونة عند الله تعالى، فإذا أحبّ الله عبداً منحه خلقاً حسناً.
مكارم الأخلاق أكبر ثمرة من ثمرات الصلاة :
أنا أقول لكم هذه الكلمة دقيقة جداً، أرجو الله أن تكون واضحة قال تعالى:
﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ﴾
[ سورة العنكبوت]
من أدق ما قاله الإمام ابن عباس الصحابي الجليل: " إن ذكر الله لك أيها المصلي أكبر من ذكرك له، إنك إن ذكرته أديت واجب العبودية، لكنه إذا ذكرك منحك الرحمة، منحك العدل، منحك الحلم، منحك الرضا، منحك اليقين، منحك مكارم الأخلاق"، أكبر ثمرة من ثمرات الصلاة مكارم الأخلاق، وحينما غفلنا عن هذه الثمرة الصلاة لم تكن كما أرادها الله عز وجل من هنا ورد:
(( ليس كل مصلٍّ يصلي، إنما أتقبل الصلاة ممن تواضع لعظمتي - أي فكر بالكون، عرف عظمة الله - ولم يصر على معصيتي - استقام على أمر الله - وأطعم الجائع، ورحم المصاب، وآوى الغريب، كل ذلك لي - إخلاص هذا - وعزتي وجلالي إن نور وجهه لأضوء عندي من نور الشمس ))
[ أخرجه الديلمي عن حارثة بن وهب ]
والحديث طويل.
نية الإنسان لفعل معصية هي الكسب الذي سيحاسب عليه :
إذاً
﴿ سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾
هذا الكسب هو من صنع الإنسان، الحركة من الله، القوة من الله، أما نية التوجه إلى معصية فهذا من الإنسان، والدليل:
﴿ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ﴾
[ سورة البقرة الآية: 286]
ما الذي تحاسب عليه؟ هذه النية لفعل طاعة أو معصية، فنية الإنسان لفعل معصية هي الكسب الذي سيحاسب عليه، أما القوة فقوة الله عز وجل، والعمل الصالح يحتاج إلى قوة وهي من الله، لكن نية المؤمن في تقديم هذه الخدمة هي التي يكافئ الله عليها، هذه النية التي انعقدت في نفسه في خدمة الناس هي سبب المكافأة من الله له.
من أطاع الله أطاعه كل شيء :
الآن:
﴿ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ﴾
[ سورة التوبة]
انظر الإنسان المؤمن متعلق بالله عز وجل، إذا أرضى الله أرضى الله عنه كل شيء، من هاب الله هابه كل شيء، من أرضى الله أرضى الله عنه كل شيء، إذا إنسان أرضى الله عز وجل يلقي الله محبته في قلوب الخلق، يلقي هيبته في قلوب الخلق، يلقي في قلوب الخلق رغبة في طاعته، من أطاع الله أطاعه كل شيء، من هاب الله هابه كل شيء.
إذاً:
﴿ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ﴾
هنا الشاهد لو أن أهل الأرض جميعاً رضوا عن إنسان، ولم يكن الله راضياً عنه ما استفاد شيئاً، الأصل رضاء الله عز وجل، فإذا رضي الله عنك أرضى عنك كل الخلق، لذلك:
(( من التمس رضا الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى الناس عنه، ومن التمس رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط الناس عليه ))
[أخرجه الترمذي والإمام أحمد عن عائشة أم المؤمنين ]
لذلك: إلهي أنت مقصودي، ورضاك مطلوبي، المؤمن موحد، المؤمن يتجه إلى جهة واحدة، أما غير المؤمن فعليه أن يتجه إلى جهات عديدة جداً.
﴿ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ﴾
البطولة أن يرضى الله عنك لا أن يرضى عنك الناس، قد يرضى الناس عنك والله ليس راضياً عنك، لا قيمة لهذا الرضا إطلاقاً.
الموضوعية قيمة أخلاقية و علمية :
ثم يقول الله عز وجل:
﴿ الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُود مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾
[سورة التوبة]
كيف؟ هناك تعليل لطيف، الأعراب سكان البادية، وهناك سكان المدن، بالمدينة يوجد علم، ومساجد، ومدارس، ومعاهد، ودروس علم، وخطباء، الريف قد يكون جميلاً وهادئاً، لكن لا يوجد علم، هنا أكثر المفسرين قالوا: الأعراب الذين اختاروا البادية، البادية هادئة، لكن لا يوجد فيها علم.
((من بدا جفا ))
[أخرجه أبو يعلى عن البراء]
﴿ الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ ﴾
بعدهم عن منابع العلم جعلهم بهذه الجفوة، وهذا التكذيب أحياناً.
﴿ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾
لكن الشيء الذي يلفت النظر ما يسمى بالموضوعية، الموضوعية أخواننا الكرام، قيمة أخلاقية، وقيمة علمية، إذا كنت موضوعياً فأنت أخلاقي، وإذا كنت موضوعياً أنت عالم، قيمة أخلاقية، وقيمة موضوعية، وقيمة علمية في الوقت نفسه، أنا أتمنى أن يكون الإنسان موضوعياً، الآن مثلاً:
﴿ وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾
[ سورة التوبة]
لا يوجد حكم مطلق، مرة كنا في الجامعة أثناء مناقشة الدكتوراه قال الأستاذ المشرف للذي يدلي بملخص أطروحته: في هذه العبارة تعميم، قال له: والتعميم من العمى.
الأعمى يعمم، أما كلما ارتقى علمك فلا تعمم، الحكم الموضوعي دليل علمك، ودليل أخلاقك، أنت إذا كنت موضوعياً فأنت عالم، وأنت إذا كنت موضوعياً فأنت أخلاقي.
مثلاً: الأسرى مروا أمام النبي في بدر، وكان صهره بينهم، زوج زينب، سعد بن الربيع قال: "والله ما ذممناه صهراً"، انظر إلى الموضوعية، هو الآن مشرك، وجاء ليقاتل النبي، وقد يقتله، أما لما استعرض الأسرى فقال: "والله ما ذممناه صهراً".
فأنت بالموضوعية تكون عالماً، بالموضوعية تكون أخلاقياً.
إذاً:
﴿ الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً ﴾
والأعراب سكان البادية، والبادية لا يوجد فيها علم، العلم فيها ضعيف جداً، الآن نحن عندنا بواد، خيام، وغنم، ومنتجات زراعية، لكن جامعة ومدارس بالبادية لا يوجد.
حاجة العلم إلى التفرغ :
﴿ الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ ﴾
يقول الإمام الشافعي: لو كلفت شراء بصلة ما تعلمت مسألة.
العلم يحتاج إلى تفرغ، إلى جامع، إلى مجلس علم، الإنسان حتى يضع على بطاقته د. جانب اسمه، د. يعني دكتور يكون معه ابتدائية، وإعدادية، وثانوية، ولسانس، ودبلوم عامة، ودبلوم خاصة، وماجستير، ودكتوراه، ثماني شهادات حتى يضع د.، تريد أن تقول: أنا مؤمن ولك الجنة وما قدمت شيئاً لهذه الجنة؟ لا قدمت علماً، ولا طلبت علماً، لا قرأت كتاباً، ولا فهمت القرآن، مستحيل.
﴿ الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾
هذه دعوة إلى أن تكون مع دور العلم، مع ينابيع العلم، مع مكان فيه علم، مع مكان فيه توجيه، الأولى أن تكون في مجلس علم، مع شيخ في مسجد، في تفسير، في حديث، في سيرة، في فقه، هذا العلم علم مصيري، نحن أحياناً نفرق بين شيء مصيري وشيء غير مصيري، إذا الإنسان عرف الله عرف كل شيء.
أنواع العلم :
كنت أقول دائماً: إن كل علم ممتع على الإطلاق، أنا أضرب مثلاً بسيطاً أن الإلياذة والأوديسة هي قصائد مشهورة جداً في العصور القديمة، قبل الميلاد، لكن تتحدث عن آلهة، الأفكار كلها غير صحيحة، لكن يبدو فيها نظم عميق جداً، الإلياذة والأوديسة ممتعة لكن غير صحيحة، هناك علم ممتع ونافع، أنت أخذت شهادة عليا نادرة، فيزياء نووية، لك دخل كبير، صار هذا علماً ممتعاً مع أنه ممتع نافع، لكن هناك علم ممتع، نافع، مسعد، هو العلم الشرعي، هذا العلم نفعك في دنياك وفي آخرتك، هذا العلم كان سبب دخولك الجنة، فابحث عن علم ممتع، نافع مسعد، هناك علم ممتع فقط، أي علم.
أحياناً مثلاً تقرأ قصيدة و هي عبارة عن ألف بيت، بموضوع معين، لكن هذا الموضوع لا يقدم ولا يؤخر هذا علم ممتع، هناك علم ممتع نافع مسعد.
المنافق يرى أن الإنفاق خطأ كبير و خسارة كبيرة :
الأعراب ابتعدوا عن ينابيع العلم، سكنوا البادية:
﴿ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَمِنَ الْأَعْرَابِ ﴾
بعضهم المنافق،
﴿ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَماً ﴾
العمل الصالح يعد خسارة كبيرة، يقولون: إن أردت أن تعرف ما إذا كنت من أهل الجنة أم من أهل النار ما الذي يسعدك أن تعطي أم أن تأخذ؟ الأنبياء أعطوا ولم يأخذوا، الأقوياء أخذوا ولم يعطوا، الأنبياء ملكوا القلوب، الأقوياء ملكوا الرقاب، الأنبياء يمدحون في غيبتهم، الأقوياء في حضرتهم، الأنبياء عاشوا للناس، الأقوياء عاش الناس لهم.
إذاً:
﴿ وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَماً ﴾
يعد الإنفاق خطأ كبيراً، ومغرماً كبيراً، وخسارة كبيرة، ما رأى الله، ما رأى ما عند الله، ما عمل للجنة، ينفق، ادعى أنه مؤمن فلابد من أن ينفق، فإنفاقه في إكراه.
من ارتاحت نفسه لمصيبة ألمت بأخيه فهو منافق :
﴿ وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ ﴾
بالمناسبة أخواننا: إذا ارتاحت نفسك بمصيبة ألمت بالمؤمن فاعلم أن هذا نوع من النفاق، الدليل:
﴿ إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ ﴾
[ سورة التوبة الآية: 50]
هذا مقياس، المؤمن مستقيم، طاهر، جاءته مصيبة أنت ارتحت، يمكن أن تعزيه، يمكن أن تتصنع الألم من أجله، لكن بأعماقك مرتاحاً، ما دام هناك راحة لهذه المصيبة التي أصابت المؤمن فاعلم علم اليقين أن هذا نوع من النفاق.
فالمنافق:
﴿ وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ ﴾
المصائب، ينتظر مصيبة تريحه.
قال:
﴿ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ ﴾
المصائب سوف تنزل إليهم،
﴿ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾
إذا تكلمت سميع، سكتت، وفكرت بأعماقك عليم، إن تحركت بصير، تحركت، نطقت سميع، لا تحركت ولا نطقت، أضمرت شيئاً، عليم، أنت مستهدف، إن تحركت فهو عليم، وإن تكلمت فهو سميع، أضمرت فهو عليم.
من تقرب إلى الله بعلم أو بعمل فله الجنة :
﴿ وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾
[ سورة التوبة]
﴿ وَمِنَ الْأَعْرَابِ ﴾
انظر إلى التوازن والموضوعية،
﴿ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ ﴾
يتقرب إلى الله بإنفاقه.
﴿ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ ﴾
أي يحضر مجلس علم له صلة مع رسول الله.
﴿ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ ﴾
أحد القرب القرب عن طريق العلم، أو عن طريق العمل، علم وعمل، إن جلست مجلساً لرسول الله، أو لعالم صادق فأنت قدمت قربة علم، وإذا عملت عملاً صالحاً قدمت قربة عمل،
﴿ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ ﴾
الرد الإلهي:
﴿ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ ﴾
أي في الجنة
﴿ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾
والحمد لله رب العالمين