18-12-2025 06:16 PM
سرايا - لكلّ عصرٍ «مجلسه». كان في زمنٍ ما ساحة المسجد، ثم المقاهي والجرائد والإذاعة. أمّا اليوم فقد أصبحت شبكات التواصل هي الساحة الأكبر التي يتجادل الناس فيها، ويتعلّمون، ويتعارفون، ويستلهمون… ثم يتعبون أيضاً. لذلك لم يعد سؤال: «هل يحتاج المسلمون إلى شبكة تواصل اجتماعي خاصة بهم؟» مجرّد ترفٍ أو فكرةٍ جانبية، بل محاولة للإجابة بصدق عن أمرٍ بسيط: أيّ بيئة نريد أن نعيش فيها — ولو على المستوى الرقمي.
المنصّات العالمية مريحة ومألوفة، لكن لها سمة أساسية: ليست «محايدة». خوارزمياتها تُبنى على تعظيم التفاعل، والتفاعل في الغالب لا تصنعه المعرفة ولا الأدب، بل يصنعه الصراع والاستفزاز وحبّ الظهور والضجيج اللامتناهي. وفي مثل هذه البيئة يضطرّ المتديّن إلى وضع «مرشّح داخلي» دائم: ماذا يرى؟ مع من يجادل؟ أين يتوقّف؟ ومتى يغلق التطبيق؟ ومع الوقت تظهر الفكرة الطبيعية: ماذا لو وُجدت مساحةٌ يكون فيها هذا المرشّح جزءاً من تصميم المنصّة نفسها، لا عبئاً فردياً على كلّ مستخدم؟
المقصود ليس «الانسحاب من العالم» ولا بناء جدارٍ رقمي. المقصود هو وجود بديل: مكان تكون فيه معايير التواصل أقرب إلى أخلاق الإسلام، وتكون فيه الأسرة أكثر اطمئناناً، ويقلّ فيه العشوائي ويكثر فيه الهادف. العالم واسع، والأمّة أوسع — وهي تعيش في ثقافاتٍ ولغاتٍ وواقعٍ اجتماعي مختلف. ومن ثمّ ينبغي للفضاء الرقمي أن يعكس هذا التنوّع بدل أن يحوّله إلى جزرٍ منفصلة.
من المشاريع التي تحاول تحويل هذه الفكرة إلى حلولٍ عملية واضحة مشروع شبكة تواصل اجتماعي للمسلمين. وهو يلفت النظر لأن «المنصّة الإسلامية» هنا ليست شعاراً عاماً، بل آلياتٍ ملموسة ضمن المنتج نفسه — دون محاولة لإعادة اختراع الإنسان، بل محاولة لإعادة ترتيب البيئة الرقمية حوله.
أبرز نقطة — وربما الأكثر جوهرية — هي الترجمة التلقائية. فالأمّة لا تتحدّث لغة واحدة: العربية والإنجليزية والأردية والإندونيسية والتركية والروسية وغيرها واقعٌ يومي. وغالباً ما تقسّم المنصّات الناس إلى «جزر لغوية»: كلّ مجموعة تقرأ أبناء لغتها وكأنها عالمٌ منفصل.
أمّا هنا فالفكرة مختلفة: تُترجم المنشورات والتعليقات تلقائياً بمساعدة الذكاء الاصطناعي، بحيث يستطيع المستخدم أن يقرأ ويتفاعل دون أن يخرج كل مرة إلى مترجمٍ خارجي. ومن الطبيعي، في سياق هذا التوجّه، أن تتوفّر أيضاً نسخة عربية مستقلة للمشروع عبر الرابط: salam.life/ar. والنتيجة أن الحوار لا يتوقّف عند «لم أفهم»، بل يحصل على فرصةٍ ليكون عالمياً فعلاً — حيث تُبنى الصلة على المعنى لا على لغة الواجهة.
ومن الخصائص اللافتة أيضاً فصل الخلاصة (Feed) بين الرجال والنساء. قد يبدو ذلك غير مألوف للبعض، لكنه لدى آخرين أقرب إلى تنظيمٍ متوقَّع منذ زمن: تتحوّل حدود التواصل إلى جزءٍ من تصميم المنتج، لا إلى «دفاعٍ ذاتي» مستمر. هذه الآلية تجعل الوجود داخل المنصّة أكثر هدوءاً وتوقّعاً، خصوصاً لمن يقدّرون الخصوصية وأدب التعامل.
خطّ ثالث مهم هو الإشراف بوصفه حمايةً للمعيار لا مجرّد إطفاءٍ للأزمات بعد وقوعها. ففي المنصّات الكبرى كثيراً ما تنزلق التعليقات إلى سخريةٍ جارحة أو سمّيةٍ أو سباقٍ على «النقطة الأقوى». أمّا هنا فالمراهنة على أن تبقى نبرة الحوار أقرب إلى الأدب منها إلى حرب الآراء.
وأخيراً تأتي فكرة العمل الخيري. في التصوّر الإسلامي مساعدة المحتاج ليست حدثاً موسمياً بل ممارسة متكرّرة. لذلك يبدو منطقياً أن يكون في الفضاء الرقمي ما يذكّر بأن النشاط عبر الإنترنت يمكن أن يرتبط بفائدةٍ واقعية، لا أن يبقى مجرّد استهلاكٍ للمحتوى.
لا، بالطبع. فالمنصّات العالمية ما زالت مساحة للدعوة وللعمل وللحضور في النقاش العام. المسألة ليست استبدالاً، بل توازناً: أن يكون لدى الناس فضاءٌ لا يحتاجون فيه إلى «القتال مع البيئة» طوال الوقت، دون أن يغيبوا عن الحوار الأوسع.
هل يحتاج المسلمون إلى شبكة تواصل خاصة؟ إن كانت الفكرة تعني العزلة والانغلاق فالجواب: لا. أمّا إن كانت تعني بيئة رقمية لا تصطدم بالقيم، وتصميماً واعياً للتواصل، وتعدّداً لغوياً حقيقياً يساعد الناس على فهم بعضهم بعضاً — فالجواب أقرب إلى نعم.
وربما المعنى الأهم لمثل هذه المشاريع أنها تذكّرنا بأمرٍ بسيط: ليست شبكات التواصل مجبرة أن تكون مصنعاً للضجيج. يمكنها أن تكون مساحةً تجعل الإنسان أهدأ، وألطف، وأكثر انتباهاً للآخرين. وهذا في النهاية ليس سؤال تقنية فقط، بل سؤال اتجاه.
| 1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
18-12-2025 06:16 PM
سرايا |
| لا يوجد تعليقات | ||