قد يبدو الهدوء في تداول السوق نعمة للوهلة الأولى: شموع صغيرة، حركة سعرية محدودة، وأخبار قليلة. لكن هذا النوع من الهدوء قد يكون “هادئًا بشكل خطير” عندما لا يكون سببه الاستقرار الحقيقي، بل ضعف السيولة. في هذه الحالة يصبح السوق أقل شفافية، وأكثر حساسية لأي أمر شراء/بيع متوسط الحجم، وأشد قابلية لحدوث انزلاقات سعرية وقفزات مفاجئة لا تعكس “اتجاهًا” بقدر ما تعكس فراغًا في دفتر الأوامر.
يتضاعف أثر هذه المشكلة عند تداول سوق فوركس تحديدًا، لأن السيولة تتبدّل وفقًا للجلسات وتداخلها، وقد تمر ساعات يكون فيها دفتر الأوامر أقل عمقًا حتى على الأزواج الرئيسية. هنا تصبح “تكلفة الدخول والخروج” جزءًا من المخاطرة، وقد ينجح التحليل الفني على الورق بينما يفسده التنفيذ بسبب اتساع الفارق بين العرض والطلب أو تفعيل الوقف عند وخزات قصيرة ناتجة عن فراغ سيولة لا عن تغيّر فعلي في المزاج العام.
ما المقصود بـ “الهدوء الخطير” في السوق؟
الهدوء الخطير هو حالة تبدو فيها الحركة السعرية محدودة، لكن “السيولة المتاحة فعليًا” منخفضة، ما يخلق بيئة قد تتغير فيها الأسعار بسرعة عند أول صدمة صغيرة. في الأسواق عالية السيولة، الهدوء غالبًا يعني توازنًا بين المشترين والبائعين، ودفتر أوامر عميق، وتنفيذًا مستقرًا. أما في السيولة الضعيفة، فالهدوء قد يعني ببساطة أن عدد المشاركين أقل، وأن عروض البيع والشراء أقل كثافة، وأن الفجوة بينهما أكبر.
هذه الحالة تشبه طريقًا سريعًا خاليًا ليلًا: القيادة تبدو سهلة، لكن أي انحراف بسيط قد يتحول إلى حادث لأن “هوامش الأمان” أقل، والإضاءة أضعف، وردة الفعل أبطأ. كذلك السوق: حين تقل السيولة، يقل “الامتصاص” لأي أوامر مفاجئة، ويزيد احتمال الانزلاق والتذبذب غير المتوقع.
لماذا تصبح السيولة الضعيفة بيئة خصبة للمفاجآت؟
في ساعات السيولة العالية، تُسعَّر الأصول عبر تدفق مستمر من الأوامر، وتنافس قوي بين مزوّدي السيولة، ما يضغط على السبريد ويقلل الانزلاق. أما في ساعات السيولة الضعيفة، فالصورة تتبدّل: السبريد يتّسع لأن المخاطرة على مزوّد السيولة أعلى، والعمق في دفتر الأوامر أقل، وأي أمر سوقي (Market Order) قد يلتهم عدة مستويات سعرية دفعة واحدة.
الأخطر أن بعض التحركات في هذه الساعات تكون “ميكانيكية” وليست “تحليلية”: قفزة بسبب نقص عروض البيع، أو هبوط بسبب فراغ في الشراء، أو تفعيل أوامر وقف متتالية لأن السعر مرّ سريعًا عبر مناطق قليلة الأوامر. هنا قد تفسّر الحركة خطأً على أنها بداية ترند، بينما هي مجرد تشوّه مؤقت بسبب انخفاض السيولة.
إشارات عملية تقول لك إن السوق هادئ بشكل خطير
أول إشارة هي اتساع السبريد بشكل غير معتاد مقارنةً بمتوسطه اليومي لنفس الأصل. قد ترى السعر شبه ثابت، لكن الفرق بين العرض والطلب لا يبرر الدخول لأن تكلفة الدخول والخروج ترتفع تلقائيًا.
الإشارة الثانية هي “ضعف الاستجابة” بعد لمس مستويات فنية. في السيولة الجيدة، غالبًا ترى ارتدادًا واضحًا أو كسرًا مصحوبًا بتسارع. في السيولة الضعيفة قد يلمس السعر مستوى مهمًا ثم يتحرك ببطء وبشكل متقطع وكأنه “يسير على أطراف أصابعه”، لأن المشاركين الفعليين أقل.
الإشارة الثالثة هي كثرة الذّيول (Wicks) وظهور قفزات صغيرة مفاجئة ثم عودة للسعر بسرعة، خصوصًا إذا لم تكن هناك أخبار تبررها. هذا نمط شائع عندما تكون الأوامر موزعة بشكل غير متوازن.
الإشارة الرابعة هي تراجع مؤشرات الحجم (Volume) أو حجم التداول الفعلي، إن كان متاحًا في منصتك أو في بيانات السوق للأدوات ذات البورصة المنظمة. انخفاض الحجم لا يعني دائمًا خطرًا، لكنه مع اتساع السبريد وازدياد الذّيول يصبح علامة واضحة على “هدوء غير صحي”.
متى تحدث ساعات السيولة الضعيفة غالبًا؟
تتكرر السيولة الضعيفة عادةً في الفترات بين الجلسات الرئيسية، وفي ساعات منتصف الجلسة عندما يقل النشاط المؤسسي، وكذلك أثناء العطلات الرسمية أو قبيلها، وأحيانًا في أوقات “التمرير اليومي” أو تغيير اليوم التداولي لدى بعض الوسطاء حيث قد تتغير شروط التسعير مؤقتًا.
في الفوركس مثلًا، تتسم الفترات خارج تداخل الجلسات الكبرى بسيولة أقل نسبيًا. وفي الأسهم، تقل السيولة عادةً في منتصف اليوم مقارنةً ببداية الجلسة ونهايتها. أما في الأصول المشفرة التي تعمل 24/7، فتظهر “جيوب” سيولة أضعف حسب المناطق الزمنية، وتكون بعض الساعات أكثر عرضة لذيول مفاجئة إذا تزامن ذلك مع انخفاض الحجم العام.
كيف تتعامل باحتراف مع ساعات السيولة الضعيفة؟
القاعدة الأولى: غيّر هدفك من “اصطياد حركة” إلى “حماية جودة التنفيذ”. في السيولة الضعيفة، قد يكون أفضل قرار تداولي هو عدم التداول. لكن إذا كانت استراتيجيتك تفرض التواجد، فتعامل معها كنظام مختلف بشروط دخول أكثر صرامة.
ابدأ بتعديل أدوات التنفيذ. الأفضل تقليل الاعتماد على أوامر السوق، وزيادة استخدام الأوامر المحددة (Limit Orders) قدر الإمكان، لأن أوامر السوق في السيولة الضعيفة قد تنفذ على عدة مستويات سعرية وتحوّل صفقة جيدة على الورق إلى نتيجة سيئة في الواقع. حتى أوامر الوقف، راقبها جيدًا: وضع وقف قريب جدًا في سوق قليل السيولة قد يجعلك ضحية “وخزة” عابرة لا تعكس تغيرًا حقيقيًا في الاتجاه.
ثانيًا، خفّض حجم الصفقة تلقائيًا. السيولة الضعيفة تعني أن “مخاطرة التنفيذ” أعلى من المعتاد، لذلك لا يكفي أن تكون مخاطرة الاستراتيجية محسوبة؛ يجب أن تحسب مخاطرة السبريد والانزلاق. تقليل الحجم يجعل أي انحراف في التنفيذ أقل أثرًا على حسابك، ويزيد قدرتك على الخروج دون دفع تكلفة كبيرة.
ثالثًا، ارفع معيار التأكيد قبل الدخول. إذا كنت تعتمد على كسر مستوى، فلا يكفي مجرد لمس أو إغلاق واحد في بيئة سيولتها ضعيفة. ابحث عن تأكيد إضافي مثل إعادة اختبار واضحة، أو تماسك سعري يسبق الحركة، أو تزامن ذلك مع عودة السيولة (مثل دخول فترة تداخل الجلسات). الفكرة أن الكسر في السيولة الضعيفة قد يكون “تجربة” وليس “اختراقًا”.
رابعًا، راقب السبريد كشرط صلاحية للصفقة. اجعل لديك قاعدة تشغيل بسيطة: إذا تجاوز السبريد حدًا معينًا مقارنةً بمتوسطه الذي تعرفه عن هذا الأصل، يتم تعطيل الدخول تلقائيًا. هذه ليست مبالغة، لأن تكلفة السبريد في الهدوء الخطير قد تلتهم نسبة كبيرة من الهدف المتوقع، فتجعل معادلة العائد إلى المخاطرة غير منطقية.
خامسًا، انتبه للبيئات التي تتغير فيها السيولة فجأة. أحيانًا يكون السوق هادئًا ثم تدخل سيولة قوية بسبب افتتاح جلسة رئيسية أو خبر مجدول، فتتحول الحركة من بطء إلى اندفاع خلال دقائق. هنا خطأ شائع هو الدخول قبل الحدث بقليل بدافع “الهدوء مطمئن”، ثم تأتي الحركة فتضرب الوقف بانزلاق أو تقلب حاد. التعامل الاحترافي يعني إما الابتعاد عن تلك الدقائق الحساسة، أو إن كان التداول عليها جزءًا من خطتك، فتستخدم إعدادات تتناسب مع التذبذب المتوقع مثل وقف أوسع وحجم أصغر ومنهج تنفيذ أكثر تحفظًا.
سادسًا، ميّز بين “التذبذب” و”الاتجاه”. في السيولة الضعيفة، قد ترى حركات متقطعة تُشبه الاتجاه لكنها في الحقيقة مجرد انتقال بين مستويات قليلة من الأوامر. لذلك لا تُفرط في تفسير الحركة؛ ركّز على السياق العام: أين نحن من مناطق السيولة المرتفعة؟ هل هذه الحركة جاءت مع حجم أعلى أم مع فراغ؟ هل اتسع السبريد؟ هل كثرت الذّيول؟ الإجابة عن هذه الأسئلة تمنعك من مطاردة “سراب الاتجاه”.
نموذج ذهني سريع قبل أن تضغط زر التنفيذ
اسأل نفسك: هل أربح لأنني أتوقع حركة حقيقية، أم لأنني أتوقع استمرار الهدوء؟ إذا كانت الصفقة مبنية على استمرار الهدوء، فتذكّر أن الهدوء في السيولة الضعيفة قابل للكسر في أي لحظة. ثم اسأل: لو انزلق التنفيذ ضدي بمقدار أكبر من المعتاد، هل ما زالت الصفقة منطقية؟ إن كانت الإجابة لا، فهذا يعني أن الصفقة لا تناسب هذه الساعة من اليوم.
الهدوء ليس دائمًا أمانًا
السوق الهادئ ليس مرادفًا للسوق الآمن. أحيانًا يكون الهدوء ناتجًا عن توازن صحي، وأحيانًا يكون علامة على فراغ سيولة يجعل أي حركة صغيرة تبدو كأنها “حدث”. المتداول المحترف لا يقيس الفرص فقط بحركة السعر، بل يقيسها أيضًا بجودة التنفيذ وتكلفة الدخول والخروج واحتمال الانزلاق.
اعتبر ساعات السيولة الضعيفة “وضع تشغيل خاص”: إمّا تتجنبه حفاظًا على انضباطك، أو تتعامل معه بأوامر أكثر تحكمًا، وحجم أصغر، ومعيار دخول أعلى، ووعي أكبر بأن الخطر الحقيقي قد يكون في التفاصيل التي لا تظهر على الشارت.


الرد على تعليق