سرايا - تشهد خريطة التحضر العالمية تحولاً جذرياً، حيث تتسارع وتيرة النمو السكاني في المدن الآسيوية بشكل غير مسبوق. وفي هذا السياق، شهدت مدينة جاكرتا، عاصمة إندونيسيا، صعوداً مذهلاً لتنتزع لقب أكبر مدينة في العالم من طوكيو، متفوقة عليها بعدد سكان تجاوز 42 مليون نسمة. هذا النمو الهائل يضع جاكرتا في مصاف "المدن العملاقة" التي تتجاوز بكثير عتبة "المدن الكبرى" (Mega Cities). وبينما يعكس هذا التوسع الازدهار الاقتصادي المتوقع في آسيا، فإنه يُلقي الضوء أيضاً على التحديات الهيكلية والبيئية الهائلة التي تواجهها هذه المراكز الحضرية الضخمة.

التغيير في التصنيف: جاكرتا تتفوق على طوكيو بمعايير جديدة على مدى سنوات، احتفظت طوكيو بلقب أكبر مدينة في العالم من حيث عدد السكان، لكن التغييرات في معايير التعريف والتحديثات الإحصائية الصادرة عن الأمم المتحدة قلبت الموازين. وفقاً للتعاريف المحدثة التي تميز بوضوح بين المدينة والبلدة والمناطق الريفية، فإن جاكرتا، التي كانت في المركز الثالث والثلاثين فقط عام 2018، أصبحت اليوم موطناً لعدد مذهل يبلغ 42 مليون نسمة، لتصبح أكبر بأربعة أضعاف من مستوى المدن الكبرى (التي تضم أكثر من 10 ملايين نسمة). هذا التعديل في المعايير يشير إلى أن جاكرتا كانت في الواقع تتصدر الترتيب منذ عام 2010. ويأتي في المركز الثاني بعد جاكرتا مدينة دكا، عاصمة بنغلاديش، بعدد سكان يبلغ 36 مليون نسمة، بينما تراجعت طوكيو إلى المركز الثالث، وتتوالى بعدها مدن آسيوية أخرى مثل نيودلهي وشنغهاي وقوانغتشو، بالإضافة إلى القاهرة كمدينة كبرى أيضاً.


النمو المتسارع: ضغوط التوسع وتحديات الاكتظاظ على الرغم من أن التوسع الحضري غالبًا ما يُربط بالازدهار الاقتصادي والفرص الوظيفية، إلا أن النمو الهائل لجاكرتا يضعها تحت ضغط بيئي وهيكلي خطير. فالمدينة معرضة للزلازل، وتواجه مشكلة فيضانات متكررة بسبب قربها من الساحل، وتُعاني من ازدحام مروري خانق يؤثر على الإنتاجية ونوعية الحياة. الأهم من ذلك، ووفقاً لتقارير إخبارية، فإن جاكرتا تغرق بسرعة بسبب الاستخراج المفرط للمياه الجوفية، مما يهدد وجودها المستقبلي. هذه التحديات تُظهر أن النمو السكاني غير المُدار يمكن أن يتحول إلى عبء يهدد استدامة المدينة. هذا الوضع دفع الحكومة الإندونيسية لاتخاذ قرار بنقل العاصمة الإدارية إلى نوسانتارا كاستراتيجية لتخفيف الضغط عن جاكرتا المثقلة.

مستقبل المدن الكبرى: تباين بين النمو والانكماش لا تسير جميع المدن الكبرى في العالم في مسار واحد من النمو، بل تُظهر التوقعات تبايناً واضحاً في المستقبل الديموغرافي. فبينما يُتوقع لجاكرتا أن تحافظ على لقبها في المدى القريب، تشير التوقعات إلى أن دكا ستصبح أكبر مدينة في العالم بحلول عام 2050، وقد يصل عدد سكانها إلى 52.1 مليون نسمة، مما يؤكد استمرار هيمنة آسيا على مشهد التحضر. على النقيض من ذلك، تُظهر اليابان اتجاهًا معاكساً؛ ففي ظل أزمة الشيخوخة السكانية التي تعاني منها البلاد، من المتوقع أن يتناقص عدد سكان طوكيو بمقدار 2.7 مليون نسمة بحلول منتصف القرن الحالي. هذا التباين يُشير إلى أن مستقبل المدن الكبرى يتأثر بعوامل متعددة لا تقتصر على الهجرة والولادات فحسب، بل تمتد لتشمل السياسات السكانية والتحديات البيئية المتصاعدة.

في الختام، يُعد صعود جاكرتا إلى صدارة المدن الأكبر في العالم دليلاً على التحول الديموغرافي السريع في آسيا. وبينما يُعبر هذا التوسع عن قوة المنطقة، فإنه يُعد أيضاً جرس إنذار بضرورة معالجة القضايا الملحة مثل الاكتظاظ، والفيضانات، وتأثير التغيرات المناخية. إن مستقبل الحضرية العالمية لن يعتمد فقط على عدد السكان، بل على قدرة هذه المدن العملاقة على التكيف وضمان نوعية حياة مستدامة لملايين السكان.