22-10-2025 12:37 PM
سرايا - من الملاحظات الشائعة في أسواق المال أن وتيرة التداول ونشاط الأسواق ليست ثابتة على مدار العام؛ فهي تشهد فترات “هدوء” نسبي وأخرى تعج بحركة مكثفة. ولفهم معني تداول بصورة دقيقة، يجدر إدراك أنه لا يقتصر على مجرد تنفيذ أوامر البيع والشراء، بل يشمل تفاعل السيولة، وتدفّق الأخبار، وتفاوت شهية المخاطرة عبر المواسم. من أبرز الأمثلة على ذلك فصل الصيف الذي يصفه البعض بأنه راكد سوقيًا، ومواسم نتائج الأعمال الفصلية التي تشتعل فيها الأسواق بالأخبار والتقلبات. فما الذي يكمن وراء هذا الاختلاف في إيقاع السوق بين هذه المواسم؟
يشتهر الصيف – لا سيما شهري يوليو وأغسطس – تقليديًا بأنه فترة فتور في التداول. وهناك حتى قول مأثور بين المتداولين: “Sell in May and go away” أي “بع في مايو واسترح” في إشارة إلى ضعف الأداء الصيفي تاريخيًا. الأسباب وراء ذلك متعددة؛ فكثير من المستثمرين والمديرين يأخذون إجازاتهم السنوية خلال الصيف، مما يقلل عدد وحجم الصفقات المنفذة في الأسواق. كذلك تميل الشركات الكبرى والمؤسسات الاستثمارية إلى تقليل الأخبار والمبادرات الكبيرة في الصيف، فلا اجتماعات سياسات نقدية مهمة غالبًا ولا إعلانات مالية ضخمة (باستثناء حالات طارئة). النتيجة هي انخفاض في أحجام التداول اليومية وتقلبات أقل مقارنة ببقية العام. مثلًا، تجد أن مؤشر التقلب (VIX) غالبًا ما يكون في مستويات أدنى خلال أشهر الصيف ما لم يحدث طارئ، وأن نطاقات التداول اليومية للمؤشرات تضيق نسبيًا. حتى في أسواق العملات، يُلاحظ تراجع التقلب وهدوء الاتجاهات في شهور الصيف عدا حدوث أخبار جيوسياسية فجائية. وهنا تبرز فاعلية استراتيجيات التداول على حركة السعر التي تعتمد قراءة الشموع والمناطق السعرية والسيولة لتحديد نقاط دخول وخروج محافظة في بيئة منخفضة الزخم. وقد وصف محللون شهر أغسطس بأنه “الأيام الكسولة الضبابية من الصيف” حيث السوق كسول بعض الشيء. بالطبع، هذا لا يعني غياب التحركات كليًا – فأحيانًا يشهد الصيف أحداثًا مفاجئة (كأزمة مالية أو تطورات حرب تجارية مثلاً) تقلب الطاولة. لكن في غياب ذلك، يسود نوع من الركود الموسمي. انخفاض السيولة هذا قد يؤدي أحيانًا لمفارقة مثيرة: وهي أنه عند حدوث خبر كبير في الصيف، تكون حدة التذبذب عالية على نحو غير معتاد لأن السوق خامل والسيولة ضعيفة، فيؤدي الخبر لتحرك مبالغ فيه. رأينا مثالًا على ذلك في أوائل أغسطس 2019 حين أدت أنباء مفاجئة عن تصعيد الحرب التجارية إلى هبوط حاد في بضعة أيام وسط سوق كان هادئًا. إجمالًا، يمكن القول إن الصيف هو “موسم الانتظار والتقاط الأنفاس” بالنسبة للسوق، إذ غالبًا ما يسبق فترة الخريف التي تشهد عودة النشاط وبدء دورة جديدة بعد الصيف.
في المقابل، تعتبر الأسابيع التي تعقب نهاية كل ربع سنة مالية فترة ساخنة في الأسواق، إذ تعلن خلالها آلاف الشركات المدرجة نتائج أدائها للربع المنقضي. يأتي موسم الأرباح أربع مرات في السنة (في يناير – الربع الرابع للسنة الماضية، وفي أبريل – الربع الأول، وفي يوليو – الربع الثاني، وفي أكتوبر – الربع الثالث). خلال هذه الفترة، تتدفق الأخبار يوميًا بكثافة: أرباح شركة كبرى فاقت التوقعات فتقفز أسهمها؛ شركة أخرى خيّبت الآمال فانخفضت؛ توجيه مستقبلي متفائل من هذه الشركة، أو تحذير من تباطؤ النمو من تلك… وهكذا دواليك. هذا الزخم الإخباري يصحبه عادةً ارتفاع ملحوظ في أحجام التداول وتقلب الأسعار. تشير الإحصائيات إلى أن حجم التداول اليومي في الأسواق قد يرتفع بنسبة 20-30% أعلى من المعتاد أثناء موسم نتائج الأعمال. والسبب أن كثيرًا من المستثمرين يعيدون تشكيل محافظهم بناءً على المعلومات الجديدة، وصناديق الاستثمار النشطة تقوم بمواءمة حيازاتها لكل قطاع حسب قوة نتائج شركاته. كما أن التقلب (Volatility) يشهد ازديادًا ملحوظًا؛ فكثير من الأسهم تشهد حركات حادة بنسبة 5-10% في يوم إعلان النتائج – بل وبعضها قد يتحرك 20% أو أكثر في الجلسة نفسها إذا جاءت الأرقام بعيدة جدًا عن التوقعات. وهذا التأثير لا يقتصر على سهم الشركة المعلنة فقط، بل يمتد أحيانًا إلى قطاعها بالكامل (مثلاً إعلان أرباح إيجابية لشركة تكنولوجيا عملاقة قد يرفع معها أسهم شركات التكنولوجيا الأخرى توقعًا لتحسن البيئة العامة) أو حتى للسوق ككل لو كانت شركة مؤثرة في المؤشر. لذلك كثيرًا ما يُنظر لموسم الأرباح على أنه “محك الواقع” الذي يصحح مسار السوق قصير الأجل؛ فبعد أشهر من التكهنات، تأتي النتائج الفعلية لتعيد تقييم أسعار الأسهم بحسب أدائها الحقيقي. وفيه تُفرز الأسهم بين رابح حقيقي يستحق الارتفاع وخاسر يتم معاقبته بالبيع.
هذا التباين بين الصيف وموسم الأرباح يخلق أحيانًا فرصًا ومخاطر مختلفة للمستثمرين. فمثلاً، قد يفضل البعض القيام بتحركات استراتيجية (كإعادة التوازن أو بناء مراكز جديدة) خلال الصيف مستفيدين من الهدوء وانخفاض المنافسة على أسعار معينة. بالمقابل، يتجنب آخرون التداول النشط في الصيف بسبب ضعف الزخم ويركزون جهودهم في مواسم النشاط للحصول على فرص “تداول الأخبار” والاستفادة من التذبذبات العالية. بعض الاستراتيجيات التداولية مصممة خصوصًا لموسم الأرباح – مثل شراء الخيارات قبل إعلان متوقع وتحقيق ربح من القفزة السعرية – لكنها بالطبع تحمل مخاطر عالية أيضًا إذا جاء الواقع مخالفًا. على الجانب الآخر، يتوخى المستثمر طويل الأجل الحذر في موسم الأرباح من الضجيج قصير الأجل، وقد يستغله إما لاقتناص سهم جيد هبط مؤقتًا بسبب نتائج أقل من التوقعات لكنه ما زال قوي الأساس، أو لجني ربح جزئي من سهم ارتفع بقوة ربما تفوق fundamentals. أما في الصيف، فربما يركز هذا المستثمر على جمع المعلومات والاستعداد للربع التالي بدلًا من توقع تحركات كبيرة.
يجدر بالذكر أن هناك أنماطًا موسمية أخرى معروفة في الأسواق. مثلاً، شهري يناير وفبراير كثيرًا ما يشهدان تدفقات أموال جديدة من ميزانيات مستثمرين سنوية أو مكافآت تم إعادة استثمارها – فيما يعرف بـ “تأثير يناير” – مما يدعم الأسواق نسبيًا في مطلع العام. أيضًا الربع الأخير من السنة (أكتوبر – ديسمبر) كثيرًا ما يكون قويًا للأسهم تاريخيًا، ربما بسبب تفاؤل عطلات الأعياد أو رغبة المدراء بإغلاق السنة على ارتفاع. في المقابل، سبتمبر يُعتبر من أضعف الأشهر أداءً تاريخيًا في العديد من الأسواق. هذه الأنماط ليست قواعد صارمة لكنها لوحظت إحصائيًا عبر عقود. وبالطبع، الأحداث الاستثنائية قد تطغى على أي نمط موسمي – فمثلاً في عام 2020، لم يكن هناك هدوء صيفي معتاد بسبب استمرار اضطراب جائحة كورونا وتحركات البنوك المركزية القوية، فكان الصيف نشطًا بقدر باقي العام تقريبًا.
خلاصة القول: تختلف وتيرة نشاط الأسواق باختلاف شهور السنة ومواسمها تبعًا لعوامل تتعلق بدورة الأعمال وجدول إفصاحات الشركات وأنماط سلوك المستثمرين. الصيف غالبًا هادئ لأن المستثمرين يقل نشاطهم وتغيب الأخبار الجوهرية، بينما موسم نتائج الشركات أشبه “بموسم الحصاد” الذي تتكثف فيه المعلومات وتتقلب الأسعار وفقًا لها. الوعي بهذه الاختلافات الموسمية مفيد للمستثمر في تخطيط استراتيجيته وتهيئة توقعاته: فلا ينزعج إن مرّت محفظته بأسابيع فتور في الصيف فهذا معتاد، ولا يُفاجأ بقفزات محفظته خلال أسابيع إعلان النتائج. والأهم، أن يستغل هذه المواسم لصالحه – فيتجنب المخاطر الزائدة حين يقل التداول، ويكون يقظًا ومستعدًا لاقتناص الفرص حين يحتدم النشاط. في النهاية، تبقى جودة قرارات الاستثمار هي الأساس، لكن فهم إيقاع السوق الموسمي أشبه بفهم مزاج السوق، ما يساعد على اتخاذ القرار في الوقت المناسب تمامًا كما يتم اختيار التوقيت الملائم للزراعة والحصاد.
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
22-10-2025 12:37 PM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |