حرية سقفها السماء

وكالة سرايا الإخبارية

إبحــث في ســــرايا
الخميس ,29 مايو, 2025 م
طباعة
  • المشاهدات: 4064

قراءة في كتاب الدكتور نبيل عيسى أبو دية من الزمن الصعب

قراءة في كتاب الدكتور نبيل عيسى أبو دية من الزمن الصعب

قراءة في كتاب الدكتور نبيل عيسى أبو دية من الزمن الصعب

28-05-2025 08:16 AM

تعديل حجم الخط:

سرايا - لم يُقدَر لصاحب التجربة، الوجيه الفاضل عيسى أبو دية، كتابة أخبار رحلته إلى فرنسا وأمريكا الجنوبية في منتصف العشرينيات من القرن المنصرم. هذه الرحلة التي ابتدأها منطلقاً من فلسطين وبالتحديد من شواطئ حيفا «طلباً للرزق في بلاد الله الواسعة؛ ومفعماً بالأمل في اكتشاف عالم جديد وراء البحار». هذه المغامرة، التي أقدم عليها هذا الشاب العصامي، بكل شغف وشجاعة ودون أن يعلم ما ينتظره من عقبات وصعوبات. فخاض غمارها وهو في ريعان شبابه؛ بل لم يكن حينها قد تجاوز السابعة عشر من عمره. بدأت الرحلة بعد أن استدان تكاليف رحلة الباخرة وهي خمسة دنانير أردنية من أخيه الكبير؛ والذي تخلى عن فكرة السفر لصالح أخيه عيسى.

بقيت أخبار هذه التجربة الأردنية وتفاصيلها قصصاً يتناولها الأبناء والبنات والأحفاد، إلى أن قرر ابنه الدكتور المهندس المعماري نبيل تسجيل تفاصيل مغامرة والده ووضعها في شكل قصصي أسماه «من الزمن الصعب» والذي صدر حديثاً عن (الآن ناشرون وموزعون) وباللغتين العربية والإنجليزية وبترجمة من المؤلف نفسه.

لقد شهدت بلاد الشآم، ومنها الأردن، هجرة آلاف الشباب وفي فترات مختلفة، تعددت فيها الأسباب والموجبات في كل مرة. فتارة تكون، كما في الهجرات الفردية أو العائلية، لتحسين الأوضاع المعيشية وهرباً من سنوات الجفاف؛ وفي أوقات أخرى، قبل نشوء الدولة الأردنية، كانت الهجرات الجماعية هرباً من التجاوزات والاعتداءات التي كان يمارسها العثمانيون بحق العرب. ولقد كان لأهالي مدينة الفحيص حصة وافرة من هذه الهجرات وخاصة لأمريكا الوسطى والجنوبية؛ ومن هنا جاءت قصة الكتاب موضوع حديثنا هذا.

استطاع مؤلف « من الزمن الصعب» أن ينقل لنا بعض الوقائع عن الأردن في عشرينيات القرن الماضي حيث كان الأردن يعاني آنذاك سنوات من الجفاف «وقد ضاقت بالناس الأحوال، وبخاصة المزارعين منهم، فهاجر الكثيرون وبالذات من البلدات الزراعية الصغيرة المتناثرة في ريف شرق الأردن ذات الغالبية المسيحية، أسوة بأبناء قرى فلسطين وسورية ولبنان»؛ حيث كان كل شيء يعتمد على هطول المطر «لا مطر فلا غلال ومآل ذلك الجوع والفقر» ولا حل للكثيرين سوى الهجرة لمن تسعفه ظروفه القيام بذلك.

في سرده لمغامرة والده، التي ابتدأها متوجهاً من قريته الفحيص إلى فلسطين قاصداً ميناء حيفا بهدف السفر إلى أمريكا بواسطة احدى البواخر، يقص علينا المؤلف حكاية العلاقة الوثيقة بين أهل قريته وفلسطين وبالتحديد مدينة القدس، والروابط الحميمة التي جمعت بين الأهالي من تجارة وروابط زواج.

كان والده يذهب مع إخوته وبعض الأقارب سيراً على الأقدام من بلدته إلى القدس بعد تحميل الدواب بأكياس الزبيب؛ حيث كانوا ينطلقون ليلاً ليصلوا القدس مع إشراقة الشمس في صباح اليوم التالي، فيبيعون بضاعتهم ويعودون مع غروب الشمس.

علاقة وثيقة مع القدس، والبداية كانت من حيفا. أنزلت الباخرة القادمة من فرنسا حمولتها في ميناء حيفا، ركب هو وآخرون متوجهين إلى أولى محطات هذه المغامرة في مدينة مرسيليا الفرنسية. هنا في مرسيليا كتب له القدر أن تحتضنه عائلة سورية كريمة سهلت له كثيراً من الأمور وساعدته في البقاء لمدة عامين فيها. وبسبب شح الأعمال وتدني الأجور قرر مغادرة مرسيليا متوجهاً إلى أمريكا. صعد الشاب عيسى إلى الباخرة التي صرحوا له بأنها متجهة إلى أمريكا وكانت كذلك لكن وجهتها بالتحديد كانت المستعمرات الفرنسية في جزر الكاريبي وليس إلى الولايات المتحدة. وبعد أسابيع من الإبحار عبر المحيط الأطلسي وصلت الباخرة وجهتها إلى جزيرة المارتينيك، وفي بلدة صغيرة اسمها فوردي فرانس ومعناها الحرفي «قلعة فرنسا»؛ بدأ عمله كوسيط لنقل المحاصيل الزراعية بين المستعمرات الفرنسية والسكان الأصليين في القرى المجاورة. كان العمل شاقاً وزاد من صعوبته، على بطل قصتنا، مشقة الحركة ونقل البضائع وعدم إتقان اللغة، حيث كان السكان الأصليون يتحدثون بلغتهم الخاصة التي «مزجوها باللغة الفرنسية».

نقلنا المؤلف برشاقة وبراعة مع سطور هذا الكتاب ومغامراته وأحداثه المتنوعة الشيقة، لنعيش قصة هذا الشاب الأردني المغامر الذي خاض مغامرته من الصفر، إلى أن اتسعت آفاقه وتنقل بين جزر الكاريبي: مونسيرات والدومينيكان وتوبيجو وترينيداد؛ بل ودفعه طموحه بعدم الاكتفاء بذلك بل توجه إلى فنزويلا في مغامرة جديدة، لكنها لم تطل كثيراً بسبب وفاة والده في الأردن واضطراره للعودة للوطن.

تقول القصة إن هذا الشاب النشيط والمغامر عاود السفر ثانيةً، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية متوجهاً الى المكسيك، وكانت أموره المالية جيدة بما فيه الكفاية ليفتح متجراً للقماش؛ حيث عمل هناك لسنوات عديدة قبل عودته ثانيةً الى عمان في بداية الخمسينيات.

في كتابه هذا، حدثنا المؤلف عن عمان ووسط البلد وشارع الملك طلال وتجار وسط عمان سوريو الأصل الذين كانوا يحضرون بضائعهم من الشآم: البهارات، السكاكر، العباءات، الحطات والعقل وغيرها. وكذلك بعض التجار الذين قدموا لعمان خاصةً من السلط بعد زلزال 1927.

في وسط البلد وفي شارع الملك طلال بالتحديد كان مستقر بطل القصة عيسى أبو دية، ومن هنا بدأ حياته الجديدة مع زوجته الفاضلة وهي ابنة تاجر أردني مسيحي من عائلة معروفة في السلط وكان يملك متجراً مجاوراً له في وسط البلد.

روى لنا الكاتب في بداية قصته عن نشأة مدينة عمان وبعض المناطق الحديثة فيها بداية القرن الماضي وعن أوائل المهاجرين الذين وفدوا إليها ومنها جبل اللويبدة، الذي سكنه بطل القصة مع عائلته لسنوات طويلة وما زال ذلك البيت قائما. مع سرد فني وممتع لوقائع عديدة حدثت للعائلة بالإضافة إلى بعض الوقائع التاريخية التي مرت بها مدينة عمان ولو بعجالة، فالنص أقرب للعمل القصصي الواقعي منه للتاريخي الأكاديمي. وقد انعكست ثقافة المؤلف وتخصصه في تاريخ العمارة في تسجيل أكثر من ملاحظة فنية جميلة عن البناء والمدينة، كما عرًج المؤلف على أسماء مناطق مختلفة في عمان، من وسط البلد وشارع الملك طلال وشارع الأمير محمد وماركا واللويبدة ومدرسة التراسانطة وغيرها.

لقد استطاع الدكتور أبو دية في قصته التي بين يدينا تقديم نموذجا طيباً للشاب الأردني العصامي الذي ضاق ذرعاً بحاله وبالوضع الاقتصادي الصعب من حوله في عشرينات القرن الماضي؛ فغامر بالسفر والابتعاد آلاف الأميال بحثاً عن فرصة تمنحه أملاً جديداً فجرب حظه في بلاد الغربة واستطاع بعرق جبينه وتعبه وذكائه الحاد وفطنته النجاح؛ لكنه اختار العودة إلى موطنه وهو الذي اعتاد أن يستشهد لأبنائه باقتباسات من الإنجيل والقرآن فكانت من عباراته المفضلة: « ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان» وعندما يلجأ إليه أبناؤه بشكوى أو تحدي ما يذكرهم قائلاً: «وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم».

في الختام لا يسعنا إلا أن نشيد بكل محاولة وبكل إضاءة يقوم بها مثقف أو أديب أو مؤرخ أردني في المساهمة بالتأريخ «للذاكرة الشفهية» المحلية وتسجيل بصمات من سبقونا ففيها إحياء للمكان وللشخوص ولذاكرتنا الوطنية.


ذيب ماجد غنما











طباعة
  • المشاهدات: 4064
 
1 -
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
28-05-2025 08:16 AM

سرايا

لا يوجد تعليقات
الاسم : *
البريد الالكتروني :
التعليق : *
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضا

الأكثر مشاهدة خلال اليوم

إقرأ أيـضـاَ

أخبار فنية

رياضـة

منوعات من العالم