سرايا - الذهب، ذلك المعدن النفيس، لا يُستخدم فقط في صناعة المجوهرات والزينة، بل يُعد من أهم الملاذات الآمنة التي يلجأ إليها المستثمرون في أوقات التوترات الاقتصادية والسياسية. من هذا المنطلق، يتأثر سعر الذهب بمجموعة كبيرة من العوامل، من بينها السياسات التجارية العالمية، وعلى رأسها الرسوم الجمركية. خلال السنوات الأخيرة، وخصوصًا في ظل الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، فرضت أمريكا رسومًا جمركية على سلع متعددة، ما أحدث اضطرابًا في الأسواق العالمية وترك أثرًا مباشرًا وغير مباشر على أسعار الذهب.

في هذا المقال، نُسلط الضوء على العلاقة بين الرسوم الجمركية الأمريكية وأسعار الذهب، ونتتبع كيف تفاعلت الأسواق العالمية مع هذه السياسات، مع تحليل أبرز العوامل التي دفعت سعر الذهب مباشر إلى الارتفاع أو الانخفاض في تلك الفترات.

أولًا: الذهب كملاذ آمن في الأزمات التجارية
الذهب يُعتبر تاريخيًا أصلًا آمنًا يلجأ إليه المستثمرون عندما تهتز الثقة في الأصول المالية الأخرى مثل الأسهم والسندات. وعندما فرضت الولايات المتحدة رسومًا جمركية على مئات المليارات من الدولارات من السلع المستوردة من الصين وأوروبا ومناطق أخرى، بدأت الأسواق تتأثر سلبًا:

تراجع ثقة المستثمرين.

انخفاض في حركة التجارة العالمية.

زيادة في التوتر الجيوسياسي.

كل هذه العوامل خلقت بيئة من القلق وعدم اليقين، مما زاد من إقبال المستثمرين على الذهب باعتباره ملاذًا لحفظ القيمة، ما دفع أسعاره إلى الارتفاع.

ثانيًا: كيف أثّرت الرسوم الجمركية على الاقتصاد العالمي؟
لفهم العلاقة بشكل أوضح، لا بد من الإشارة إلى التأثير العام للرسوم الجمركية:

1.تراجع في النمو العالمي:
أدت التعريفات الجمركية إلى ارتفاع أسعار السلع المستوردة، ما قلل من الاستهلاك والإنتاج، خصوصًا في الاقتصادات المعتمدة على التصدير.

2.اضطراب سلاسل الإمداد العالمية:
عانت الشركات من إعادة تنظيم عملياتها نتيجة الرسوم، مما زاد التكاليف وأثر على التوظيف والإنتاج.

3.ارتفاع مخاطر الركود:
عندما تزداد التوترات التجارية، يرتفع احتمال الدخول في ركود اقتصادي عالمي، وهو ما يعزز من جاذبية الذهب.

ثالثًا: العلاقة العكسية بين الدولار والذهب
عندما فرضت الولايات المتحدة رسومًا جمركية، زاد الضغط على العملات العالمية، بينما تعزز الدولار الأمريكي باعتباره عملة احتياط رئيسية. ومع ذلك، فإن هناك تأثيرًا معقدًا:

ارتفاع الدولار غالبًا ما يؤدي إلى انخفاض أسعار الذهب (لأنه يُسعَّر بالدولار).

لكن في حالة التوترات التجارية، يزداد الإقبال على الذهب كتحوط، ما يعوّض هذا التأثير ويؤدي أحيانًا إلى ارتفاع السعر رغم قوة الدولار.

في الواقع، شهدنا في 2019 – وهي ذروة الحرب التجارية – ارتفاعًا في أسعار الذهب إلى أعلى مستوياته منذ 6 سنوات، حيث تجاوز 1500 دولار للأونصة في بعض الفترات، رغم تقوية الدولار.

رابعًا: أبرز الفترات التي تأثرت فيها أسعار الذهب بسبب الرسوم الجمركية

1. منتصف 2018: بداية الحرب التجارية

فرضت أمريكا رسومًا جمركية على سلع صينية بقيمة 34 مليار دولار.

وردّت الصين برسوم مماثلة.

النتيجة: الأسواق ارتبكت، وارتفع الذهب بشكل ملحوظ من حدود 1240 إلى 1300 دولار للأونصة.

2. 2019: التصعيد الكبير

توسعت الحرب لتشمل سلعًا إضافية، مع تبادل الردود بين الجانبين.

ظهرت مخاوف حقيقية من تباطؤ اقتصادي عالمي.

الذهب تجاوز حاجز 1500 دولار للأونصة في أغسطس 2019، مدعومًا بالطلب المرتفع.

3. أواخر 2019: إشارات على هدنة
بدأت المحادثات بين واشنطن وبكين بشأن اتفاق تجاري جزئي.

بدأت أسعار الذهب تهدأ تدريجيًا، لكنها ظلت مرتفعة نسبيًا بسبب بقاء عوامل عدم اليقين.

خامسًا: تأثير الرسوم على سلوك البنوك المركزية
في ظل الحروب التجارية، لجأت البنوك المركزية إلى تعزيز احتياطاتها من الذهب كبديل للدولار.

وفقًا لتقارير مجلس الذهب العالمي، زادت عدة دول – أبرزها الصين وروسيا وتركيا – من مشترياتها للذهب في تلك الفترة.
هذا الطلب المؤسسي ساعد في رفع أسعار الذهب بشكل أكبر.

سادسًا: ماذا بعد فرض الرسوم؟ التحوّلات الدائمة في السوق

1.تحول في سلوك المستثمرين:

باتت الأسواق ترى الذهب كأصل أساسي لا غنى عنه في المحافظ الاستثمارية، حتى في الأوقات المستقرة.

2.دور الذهب كأداة تحوّط من الحرب التجارية:

أصبح الذهب أداة مباشرة للمراهنة أو التحوّط ضد نتائج السياسات الجمركية.

3.دخول الذهب في استراتيجيات التحليل الكلي:

لم يعد يُنظر إليه كسلعة تقليدية فقط، بل كمؤشر لتقييم التوترات السياسية والاقتصادية.

لقد أظهر فرض الرسوم الجمركية الأمريكية بوضوح كيف يمكن أن تؤثر السياسات التجارية على الأسواق المالية والمعادن الثمينة. فالذهب، بصفته أصلًا آمنًا، استفاد من التوترات الناتجة عن تلك السياسات، ما أدى إلى ارتفاع ملحوظ في أسعاره في فترات التصعيد.

وبينما قد تتبدل الإدارات والحكومات، فإن التجربة التي مر بها العالم بين عامي 2018 و2020 أظهرت أن أي خلل في النظام التجاري العالمي ستكون له تداعيات مباشرة على أسعار الذهب، مما يجعله أكثر من مجرد معدن نفيس – بل مؤشرًا حيويًا لصحة الاقتصاد العالمي وثقة المستثمرين.