سرايا - يشكّل النفط أحد الأعمدة الأساسية للاقتصاد العالمي، وتُعدّ أسعاره مرآة تعكس التغيرات الجيوسياسية والاقتصادية الدولية. وبينما تتأثر أسعار النفط بعدة عوامل، مثل الإنتاج والاستهلاك والتقلبات السياسية، فإن السياسات التجارية ــ وعلى رأسها التعريفات الجمركية ــ لعبت دورًا مهمًا في السنوات الأخيرة، خصوصًا تلك التي فرضتها الولايات المتحدة الأمريكية في إطار ما عُرف بـ"الحرب التجارية" مع الصين. فما هو تأثير هذه التعريفات الجمركية على أسعار النفط العالمية؟ وكيف تفاعلت الأسواق مع هذه التحولات؟ هذا ما سنستعرضه تفصيلًا في هذا المقال.
أولًا: الخلفية العامة للحرب التجارية الأمريكية
بدأت الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين رسميًا في عام 2018 عندما فرضت إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب تعريفات جمركية على سلع صينية بقيمة مليارات الدولارات، ردًا على ما اعتبره ممارسات تجارية غير عادلة من جانب بكين. وردّت الصين بالمثل، مما أدى إلى تصاعد التوتر بين أكبر اقتصادين في العالم.
كان لهذه الإجراءات تأثير مباشر على سلاسل الإمداد العالمية، وخلقت حالة من عدم اليقين الاقتصادي أثرت على قرارات المستثمرين، وخفضت من وتيرة النمو في العديد من الأسواق، لا سيما في آسيا وأوروبا.

ثانيًا: العلاقة بين السياسات التجارية وأسعار النفط
تؤثر التعريفات الجمركية على أسعار زيت برنت والنفط بوجه عام عبر عدة قنوات، منها:
1. التأثير على النمو الاقتصادي العالمي:
عندما تتراجع وتيرة التجارة الدولية، يتباطأ النمو الاقتصادي العالمي، مما يؤدي إلى تراجع الطلب على النفط.
2. انخفاض النشاط الصناعي:
تتسبب التعريفات في زيادة تكلفة المواد الخام، مما يحدّ من الإنتاج الصناعي، خصوصًا في الدول المستوردة، وهو ما يقلل من استهلاك الطاقة.
3. تقلبات الأسواق المالية:
تؤدي الحرب التجارية إلى تقلبات كبيرة في الأسواق، ما يرفع من درجة الحذر لدى المستثمرين ويزيد من الطلب على الأصول الآمنة كالذهب، على حساب النفط الذي يُعتبر سلعة ذات مخاطر نسبية.
ثالثًا: تأثير التعريفات الأمريكية على أسعار النفط بشكل عملي
1. تراجع الطلب العالمي على النفط
أحد التأثيرات المباشرة كان انخفاض الطلب على النفط، خصوصًا من الصين، التي تُعد ثاني أكبر مستهلك للنفط في العالم. ومع تباطؤ الاقتصاد الصيني نتيجة التعريفات، انخفضت وارداتها النفطية من عدة دول، بما في ذلك الولايات المتحدة.
2. تقلب أسعار خام برنت وخام غرب تكساس
على مدار 2018 و2019، شهدت أسعار النفط تقلبات حادة، إذ ارتفعت أحيانًا بسبب مخاوف العرض (مثل العقوبات على إيران وفنزويلا)، لكنها سرعان ما كانت تتراجع بفعل المخاوف من ركود عالمي ناجم عن الحرب التجارية.
3. الضغط على منتجي النفط الصخري الأمريكي
فرضت الصين رسومًا على النفط الأمريكي ضمن ردها على التعريفات الأمريكية، مما قلل من قدرة منتجي النفط الصخري على التصدير، وتسبب في تخمة في المعروض المحلي، ما أدى بدوره إلى تراجع الأسعار داخل السوق الأمريكي.
4. تبدّل استراتيجيات "أوبك"
دفعت الحرب التجارية منظمة أوبك وحلفاءها إلى اتخاذ قرارات متكررة بتخفيض الإنتاج لضبط الأسعار، في محاولة لمعادلة تراجع الطلب الناجم عن توترات التجارة العالمية.
رابعًا: تأثير غير مباشر عبر أسواق العملات
تسببت الحرب التجارية في ارتفاع قيمة الدولار الأمريكي مقابل العملات الأخرى، نتيجة لاعتباره ملاذًا آمنًا في أوقات التوتر. وبما أن النفط يُسعَّر بالدولار، فإن ارتفاع الدولار يجعل النفط أغلى للدول الأخرى، ما يقلل الطلب عليه ويدفع بالأسعار إلى الانخفاض.
خامسًا: انعكاسات طويلة الأجل
1. إعادة تشكيل سلاسل التوريد
بدأت الشركات الكبرى في إعادة توزيع سلاسل الإمداد بعيدًا عن الصين، وهو ما أثر على الطلب على الوقود وطرق الشحن العالمية.
2. تحوّلات في سوق الطاقة
دفعت التوترات بعض الدول إلى زيادة اعتمادها على مصادر الطاقة البديلة وتقليل الاعتماد على النفط المستورد، ما يُمكن أن يؤدي إلى تراجع هيمنة النفط على المدى الطويل.
3. تزايد المخاطر الجيوسياسية
عززت الحرب التجارية من الاستقطاب بين الدول الكبرى، مما رفع من المخاطر الجيوسياسية التي تُعد بدورها من العوامل المهمة في تحديد أسعار النفط، خاصة في الشرق الأوسط وآسيا.
سادسًا: قراءة في البيانات والأسواق
• في عام 2018، كان سعر خام برنت يتجاوز 75 دولارًا للبرميل، لكنه انخفض في نهاية العام إلى ما دون 50 دولارًا، متأثرًا بقلق الأسواق من تباطؤ النمو العالمي.
• خلال عام 2019، ظل النفط يتراوح بين 55 و65 دولارًا للبرميل، وسط حالة من الحذر الشديد بسبب استمرار التصعيد التجاري.
• حتى بداية 2020، كانت الأسواق تأمل في هدنة تجارية تدعم الاستقرار، قبل أن تأتي أزمة جائحة كورونا وتزيد الطين بلّة.
أثبتت التعريفات الجمركية الأمريكية أنها ليست مجرد أدوات للضغط السياسي أو حماية الصناعات المحلية، بل لها تأثيرات ممتدة على الاقتصاد العالمي، من بينها أسعار النفط. فكلما زادت حدة السياسات الحمائية، زاد الضغط على التجارة والنمو، وبالتالي تراجع الطلب على الطاقة والنفط.
رغم أن أسعار النفط تتأثر بعدد هائل من العوامل، فإن السياسات التجارية – كما رأينا في الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين – تمثل عاملاً جوهريًا في تشكيل حركة الأسعار، ليس فقط على المدى القصير، بل على مستوى هيكلة السوق وتوزيع مراكز القوة في قطاع الطاقة عالميًا.