15-05-2025 08:23 AM
سرايا - «الخَرِيفُ فَضِيحَةُ أَشْجَارِنَا
الشِّتَاءُ سَيْلٌ جَرَفَ صُوَرَنَا»
لا تتوقف الإبداعات الفلسطينية والعربية المعاصرة، بثيماتها الفنية المتنوعة، عن الانخراط في فعل المقاومة، وإعمال الكلمات والخيالات المتشبثة بالنضال من أجل الكرامة والتحرر، واستعادة الأراضي المسلوبة، والحقوق الضائعة.
إنه حقًّا الليل الطويل الجاثم على الأنفاس والصدور، بكل ما يحتويه من حروب وويلات، ودمار وحصار، وقتل وتهجير وتشريد، ولكنّ أقماره أبدًا لا تمّحي، ولا تتأجل وراء ستائر النهايات. وإن لم تكن هذه الأقمار ظاهرة، فلتكن كامنة في أعماق الضمير الحيّ، أو فلتكن افتراضية حتى، يُطلقها المبدعون في الفضاء، لتتدلى منها أشعّة الأمل قطوفًا نورانية.
في ديوانه الجديد «أقمار افتراضية في ليل يطول»، (دار جبرا للنشر والتوزيع، عمّان، 2024)، ينسج الشاعر الفلسطيني محمد حلمي الريشة خيوط الدهشة، منحازًا إلى غير المتوقع، ومتطلعًا إلى الماء المبارك في المساحات الحرجة التي يظنها السطحيّون وقصيرو النظر سرابًا:
«بَيْدَ أَنَّهَا بَيْدَاءٌ مُعَلَّقَةٌ
سَرَابُهَا رَسَمَ ابْتِسَامَةً قَارِبِيَّةً عَلَى عَيْنَيَّ»
يكتب الشاعر قصيدة القبض على الجمر، يتحدّى الخطر، ينزع فتيل القنابل، يواجه الأعداء المتربصين، يصنع مدارات في الوجود، ليحقّ له أن يُطلق فيها أقمارًا نابعة من الكائن الشعري، الذي لا تُكبّله عزلته المفروضة عليه:
«قَرِيبًا مِنْهَا أَوْ بَعِيدًا عَنْهَا
تُزْهِرُ فِي الأَرْضِ
عُزْلَةُ الكَائِنِ الشِّعْرِيِّ
*
وَضَّاحٌ بَلِيغٌ
يَدُورُ فِي فَضَاءٍ مُتَعَسِّرٍ
وَنَجْمَةٌ بَيْضَاءُ
يَرُدُّ لَهَا بَصِيصَ أَمَلٍ
قَرِيبًا مِنْهَا أَوْ بَعِيدًا عَنْهَا»
هذه المفاجآتُ الإيجابية، التفاؤلية، المُلْهِمَة، التي ينشدها ويتشهاها الشاعر محمد حلمي الريشة على أرض الواقع، في ميادين المعارك الدائرة في فلسطين ولبنان وأرجاء المنطقة العربية، يفجّرها الشاعر فنيًّا أيضًا من خلال انزياحات جمالية، على مستوى صياغة القصيدة نفسها، رؤية ولغة وشكلًا وبناء، في سياق الحرص الكلي على الصادم، المباغت، غير المألوف.
تأتي تجربة ديوان «أقمار افتراضية في ليل يطول» كاملة (145 مقطعًا شعريًا، من دون عناوين) في إطار معالجة مبتكرة، يُشار إليها في توطئة النصوص على أنها محاولة جريئة لكتابة «هاينكا عربي».
وتُحيل هذه الآلية إلى ما ابتدعه الشاعر الهندي (برافات كومار بادي) بكتابة نوع شعري أطلق عليه «فن الهاينكا»(Hainka) ، والتسمية مشتقة من الدمج بين فنّي «الهايكو» (Haiku) و»التانكا» (Tanka) اليابانيين، بأنظمتهما الصوتية والإيقاعية الخاصة، وتوجهاتهما إلى الجوهر الشعري والإنساني وحركة الطبيعة ومشاهد الحياة اليومية الموحية وتفاصيلها المتشابكة، وذلك من أجل الغوص تحت الجلد، واكتشاف حقائق المعاني والمشاعر والعلاقات والأشياء على نحو مغاير للثابت والموروث.
يُجرّب الشاعر محمد حلمي الريشة في أبجديات الكتابة، مثلما يجرّب في ابتداعه أقمارًا افتراضية تبتلع الليل النابغيّ الطويل. إنها الطاقة الاستثنائية التي في وسعها أن تتلبّس أيَ عاديّ، فتجعله معجزة. هكذا شأن الحجر الصغير مثلًا في يد الطفل الفلسطيني، يقذف به غطرسة المحتلّ الغاشم فيصيبها:
«أَثْقَلْتُ عَلَيْهِ حَجَرًا
رَفَعْتُهُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ
تَنَاثَرَتْ أَوْرَاقُهُ رِيشَ طَاووسٍ»
المثقفون، في أحوال كثيرة، هم «سياسيُّو الصمت»، كما في أحد مقاطع الشاعر محمد حلمي الريشة. لكنّ القصيدة العنيدة بمقدورها أن تنطق صدقًا وعمقًا، أو تهتف غضبًا ورفضًا وصراخًا وحماسة. وبإمكانها، على الأقل، أن تردد تحية المواطن للمواطن «صَبَاحُ الـ...شُّهَدَاءِ» في فلسطين حيث:
«النَّارُ مِنْ كُلِّ الجِهَاتِ
الأَحْمَرُ لَوْنُ شَمْسِهَا
الغَيْمُ أَكْفَانُ شُهَدَائِهَا
وَالقَلَقُ وَظِيفَةُ رُؤُوسِ مَجْلِسِ القَمْلِ»
لا يملك الشاعر الفلسطيني على وجه الخصوص ترفَ السكوت، ولا يمكن لقصيدته المرتقبة أن تكون مرفّهة كتفاحة عفنة، فيما شمس فلسطين:
«لَا تَسَتَرِيحُ فِي ضُحَاهَا
تُشْرِقُ شَهِيدًا وَتَغْرُبُ شَهِيدًا»
«سَمَاؤُهَا سُدُولٌ سَوْدَاءُ
يَنْزِلُ قَمَرُهَا المُهَجَّرُ كُلَّ لَيْلَةٍ قُبُلَاتٍ»
الحرب لا تعني إلا الحرب، في نصوص الشاعر محمد حلمي الريشة، وهي مشتعلة في الجبهات كلها، لا تنتهي، ولا يهدأ وطيسها، ولا تتأثر بتحركات الحمامات وألوانها الرمزية:
«طَارَ الحَمَامْ
حَطَّ الحَمَامْ»-
سُحْقًا لِذَاكِرَةِ الحَمَامْ»
أطروحات السلام، وألاعيبه، وأحابيله، هي مشيٌ ورقصٌ فوق الحبال، خيانات فجة، أو ممسوسة بصبغة وطنية. هي وجوه الخريف المراوغة والكاذبة التي تدّعي انتسابها إلى الربيع:
«تَنْتَفِضُ البَرَاعِمُ كَمَا أَرَاهَا
بَيَاضَ سَلَامٍ يَتَوَسَّعُهُ لَوْنٌ دَمَوِيٌّ-
خِدْعَةُ رَبِيعٍ دَائِمَةٌ عِنْدَنَا
*
الخَرِيفُ فَضِيحَةُ أَشْجَارِنَا
الشِّتَاءُ سَيْلٌ جَرَفَ صُوَرَنَا
الصَّيْفُ شَاطِئٌ مِنْ دُونِ بَحْرِنَا
بَلَغَ مِلْحُ الفُصُولِ حُلْقُومَ سَلَامِنَا-
خِدْعَةُ رَبِيعٍ دَائِمَةٌ عِنْدَنَا»
يتيح القالب الفني «هاينكا» الذي ارتاده الشاعر الفلسطيني قدرًا من الهندسية، وإن كانت مغلّفة بطابع عفوي، ما يفسح المجال للتوليد الشعري الطفولي والذهني معًا، من خلال التناقضات والمفارقات الثنائية، والصدمات البريئة، والتقابلات بين مظاهر الموت وملامح الحياة:
«الرِّدَاءُ لَا يَسْتُرُ الرَّدَاءَةَ
الفَمُ فُوَّهَةُ كُرْسِيٍّ
يَنْفُخُ رَمَادًا فِي قُبُورِ المَوْتَى»
وتتسع النصوص الشعرية أيضًا، في تدفقاتها المرنة بإحكام، والمحكومة بمرونة، إلى كثير من الرؤى الفانتازية والصور الغرائبية والسوريالية، والسخرية الكاريكاتورية، التي تتجلى فيها تشظيات الذات، وصراعاتها الداخلية، إزاء واقع خارجي مُربك ومرتبك:
«قِطَارُ الوَقْتِ الفَارِغُ الَّذِي يَصْلُبُ طَرِيقِي
لَا يَزَالُ حَيَّةً طَوِيلَةً بَطِيئةَ بَطْنٍ وَ
نَامُوسَةٌ كَافِرَةٌ تَحُجُّ رَأْسِي طَنِينًا
*
لَسْتُ عُذْرًا أُقَدِّمُهُ عَلَى طَبَقِ رِيحٍ
مَا فِي القَلْبِ ذِي الشَّرَايِينِ المَعْطُوبَةِ إِرْثٌ لَكِ
مَا فِي الإِرْثِ مَكْشُوفٌ قَبْلَ مَوْتِي
حَتَّى لَوْ لَمْ تَمُتْ بَعْدُ
نَامُوسَةٌ كَافِرَةٌ تَحُجُّ رَأْسِي طَنِينًا»
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
15-05-2025 08:23 AM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |