حرية سقفها السماء

وكالة سرايا الإخبارية

إبحــث في ســــرايا
الجمعة ,26 أبريل, 2024 م
طباعة
  • المشاهدات: 15082

مقطع من رواية مخطوطة "قاع البلد"

مقطع من رواية مخطوطة "قاع البلد"

مقطع من رواية مخطوطة "قاع البلد"

14-07-2017 04:07 PM

تعديل حجم الخط:

سرايا - سرايا - «ما هذا المجنون الذي يعمل من الحبّة قُبّة؟»، قلت لنفسي بِصمتٍ تحت غطائي:

«كيف آكل معه رؤوساً مطبوخة أو مشوية وطحالات محشوة بالفلفل الحار والبهارات في منتصف الليل، وهذا النوع من الطعام لم آكله منذ عُمْر، ولا أشتهيه أصلاً، حتى لو كان من طبيخ أمي المحتجزة بعيداً عني خلف الحدود.. اللعنة على هذا الاحتلال الذي يوسع حدود عدوانه كل يوم، ليشمل مناطق مستهدفة جديدة، حتى إن بيتنا صار خلف حدود العدو، وفلسطين كلها صارت ببطن العدو الذي تضخّم مثل أفعى ابتلعت أرنباً كبيراً، وسكنت لتهضمه على مهلها.. ولكن المصيبة أن هؤلاء الغرباء لا يسكنون.. إنهم يحتلون أرضاً لا ليسكنوها، وإنما ليطالبوا بالتي بعدها.. (كل مكان تدوسه بطون أقدامكم يكون لكم). هذا ما يقرأونه في كتابهم.. لقد أغلقوا علينا جدار (جيتو) جديداً.. ولهذا صارت زيارتي لأهلي القابعين تحت الاحتلال ممنوعة».

لم يكن يسمع حديثي الصامت. قال بصوت منخفض، وبرقّة ولطف هذه المرّة: «قم يا دكتور، قم وشاركني يا أخي، ولو بلقمة.. أنا أخوك الهربيد.. اسمي الهربيد عوض.. معروف في كل منطقة السيل. كل تجار قاع البلد، من سوق الخضار إلى شارع الطلياني يعرفون الهربيد. أردت فقط أن أتعرف عليك، وأستأنس بالأكل معك. دعني أعتبره كرماً منك أن آكل بمعيتك».

يواصل ثرثرته وهو يبين لي تفاصيل محتويات كيسه الورقي المتين:

- أحضرت معي زجاجتين؛ واحدة عصير تفاح، والثانية مشروب يشفي العليل، على كيف كيفك!

مشروب! هو لا يعرف أنني طالب جامعي أزهريّ، ولا أتعامل مع المشروب.. لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم..

بدأت أصحو وأجلس متثاقلاً على سريري الزمبركي المفرد، والذي هو صورة مصغرة من قاع السيل المُقعّر كجوف العير.

هل كان الشاعر الجميل امرؤ القيس، يعرف أسرّة هذا الفندق عندما قال:

ووادٍ كجوفِ العيرِ قَفْرٍ قطعْتُه

به الذئبُ يعوي كالخليعِ المُعَيّل.

ها أنا في واديك يا امرأ القيس.. وها هو الذئب الخليع المعيّل، أراه أمامي يقول بكل ثقة في النفس: «هذا براندي محترم».

«ماذا يعني براندي يا أستاذ هربيد؟»، أسأله.

- يعني، عامل نفسك لا تعرفه؟ هذا يا دكتور صنف من مشروب الكونياك!

- أنا لم أشرب في حياتي، لا كونياك، ولا مونياك. ثم، لا أنا دكتور ولا ما يُدَكْتِرون. أنا مجرد طالب جامعي، سنة ثانية طب، في جامعة الأزهر، ولكن موظف الفندق سألني عن مهنتي، فقلت له: «طالب طب»، فسمّاني (دكتور) على الفور.. قلت؛ دكتور، دكتور! ولماذا أخجل من الدكترة، وهل هي عيب؟

سرحت، رحت أكلم نفسي بصمت، قائلاً:

«هنا يعتبرون أن أهم لقب يسندونه لمتعلم هو لقب (دكتور). كان لقب (معلم) أو (أستاذ) أيام زمان يهز البلد كلها، أو الحارة على الأقل، أما اليوم، فلقد ذاب المعلم في بنطاله يا حرام، وصار الناس يُكبِّرون الكبير بين خيارين؛ إما (دكتور) إذا كان أحدهم جامعياً، أو (حاج) إذا كان كبيراً في السن، حتى ولو لم يحجّ! لا أفهم لماذا ينادونه بقولهم: (يا حاج)، ولا يقولون له مثلاً: (يا مُزكّي)، أو: (يا مُصلِّي)، أو (يا مجاهد). قل إن موضوع الجهاد تم شطبه من الأركان الستة، ذلك لأنهم أسقطوا فريضة الجهاد عن المسلمين، وأعطونا ديناً جديداً ذا أركان خمسة فقط.. تنزيلات هائلة.. ولمَ لا يكون هناك تنزيلات، حتى في أركان الإسلام.. قالوا لنا: (الجهاد ممنوع، يعني ممنوع). ولكن، لماذا منعونا من الجهاد رغم أنه (ذروة سنام الإسلام) كما قال الرسول. ما دامت أراضينا محتلة، ونريد أن نسترجعها، أو نعود إليها على الأقل؟ أنا لا أفهم. ولكنهم والحق يقال؛ أبرزوا الحج، وجعلوا منه الركن الأهم، مع أن الحج ليس فريضة على الجميع، بل لمن استطاع... هل يتلاعبون بأركان الدين كما يريدون، فيأمرونك بالصلاة، ولا يتابعونك بشيء غير الصلاة .. مع أن الصلاة لم تأتِ في القرآن إلا مرتبطة بالزكاة (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة)، ولكنهم يتابعون تصرفاتك بما يريدون.. لماذا الحضُّ على الصلاة وحدها؟ أنت لا تفهم!».

قمت وأمري إلى الله، وحتى لو أن «لا نِفس» لي في الأكل. لقد أيقظني هذا المارد كثيف الشعر، والذي يشبه (طرزان) الحقيقي الذي كنا نحضر أفلامه على شاشات السينما.. أيقظني صوته الجهوري، وشكله المدهش..

وبسرعة فتح كيسه الورقي الذي خرخش بصوت ورق أكياس الإسمنت وهو يتناول الأشياء من داخله، وأخرج ما فيه من لحوم (السّقَطْ)، وقال لي:

- كل يا دكتور.. كل لا تستحِ... مد يدك. لقد حسبت حسابك في الأكل.

قاومت الانصياع إلى دعوته الإجبارية، ففعل المستحيل، فمددت يدي بتردد.

قطعَ لسان الخاروف المطبوخ هكذا بفركة إصبعين (عندنا يقولون: قطع لسانه من لغاليغه)، وقدمه لي قائلاً:

- اللسان يقدَّم عادة للشعراء، للكُتّاب، للدكاترة، تفضل، مُدّ يدك يا دكتور.. لا تستحِ.

لا أخفي عليك، بصراحة، مددت يدي وأكلت.. حتى لو كان «سقطاً» فرائحة اللحم المشوي تفتح النفس.. الإنسان تستنفر مخالبه إذا شم رائحة الشواء.. هكذا منذ سيدنا آدم الذي أتخيله نباتياً بالخليقة، ولكنه كما تقول الأسطورة؛ عندما تجبرت حواء بإغراءاتها له، اضطر لأكل «السقَط» من أجل أن «يسقط عليها»، فكانت نتيجة سقطته عليها، أن «سقط» من الجنة إلى الأرض (ولا أحد سمّى عليه). يبدو أنه قد تورط في قضية ما مع حواء، فاستحق الطرد هو وإياها من الجنة، لقوله تعالى: «اهبطوا بعضكم عدوٌّ لبعض». ولهذا كما أعتقد أنا السارد زوراً وبهتاناً، سمّوها «سَقَط»..

لا تتفلسف عليّ، لتبين لي الفرق بين اللحم والسقَط. أنا أعرفه جيداً. ولكنها هكذا «حبكت معي». لا داعي لطول السيرة.. لا شك أنني بدأت أستطعم الأكل.. هكذا صحوت.. بعد دقائق شعرت أنني أتورط في الأكل.. رأس خاروف مطبوخ ومشويّ مع فلفل وبهار و «الذي مِنُّه»! فتحتْ نفسي من جديد..

وعندما شاهدني آكُل بنهم، والأمور «دوزنت» معي آخر تمام، فتح زجاجة، ففاحت منها رائحة الخمر.. وأنا لم أشرب في حياتي أيّ مشروب من عائلة الخمر.. ليس لأنني طالب في جامعة الأزهر، ولكن تربيتي البيتية لم تتضمن المشروبات، أو التدخين، أو غيرها من الممنوعات.. ذلك لأننا في الخليل «نسْكَر» بعصير العنب الطازج، و»العنبـطبيخ»، والملبن و»فاكهة مما يتخيرون..».

صب الرجل كأساً ومدّها لي من طوله، فرفضت أن أمد يدي لتناولها، وقلت له:

- أنا لا أشرب الخمر.

فـ «جَعَرَ» بصوت عالٍ في هذا الوقت الغارق في منتصف الليل: «والله إذا لم تشرب، لأكسر الكأسين على الأرض».

وفوراً أمسك المجنون بالكأسين الزجاجيتين اللتين كانتا مُعدّتَين للشرب، واستعد ليخبطهما بعضهما ببعض..

الفضيحة يا رجل أنه يتصرف وكأنه يريد أن يُفرِّج علينا خلق الله من نزلاء الفندق، وقد يُصحِّي صراخه -في هذا الليل البهيم- جيران العمارات المقابلة..

بعد ليالٍ عدة عرفت أنه مشهور بفوراته في الفندق، بل وفي أسواق شارع الطلياني وتفرعاته، وقد يكون في «منطقة السيل» كلها. فهو إذا لم يكن المشروب يلعلع في شرايينه، تجده يغضب ويتهجم على الآخرين.. عندها تذكرت قول الشاعر المُعتّق عرار:

بعضهم يشرب للسكْر ولكن

بعضهم يشرب يا شيخ ليصحو.

ما هذه الورطة التي تداهمني؟ لا أعتقد أنها ورطة منضبطة ومأمونة.

«اشرب!»، قال محفزاً!

قلت في نفسي: «هل هو يحاول أن يهيمن عليّ، أم إنه يُضيِّفني، ويكرم عليّ بطريقته الخاصة؟»

«حاضر، سأشرب!»، قلت مستسلماً..

سألني: من أيّ بلد أنت؟

قلت له إنني من قضاء الخليل. ولست من هذه المنطقة.. مجرد عابر سبيل.. اضطررت للمبيت في هذا الفندق لحين وصول مصروفي الجامعي من والدي في فلسطين، حيث أنني أقف خلف الحدود، ممنوعاً من دخول وطني، بعد احتلال فلسطين بكاملها..

صَبّ الهربيد كأساً لي، وكأساً له، ثم دق كأسه بكأسي، وقال: «بصحتك».

«بصحتي، بصحتي..!»، شربت جرعة خفيفة. أُفّ..! ما هذا؟ حلقي وَلّع!

سعلت، سعلت، سعلت، انتفخ صدري، ولّعت أمعائي.

ملأ البخار الملتهب تجاويفي!

(ديزل)! (مازوت)! بلهجة الشوام! صدِّقني (سولار)! صرت أبلع ريقي كل ثانية!

ولكن «المشروب مشروب، ما منه مهروب!». لماذا لا أشرب؟ دع نفسك يا سامي الناظر تعيش الحدث.. سأشرب!

شربت جرعة ثانية.. بصراحة يا أخي، بدأت أتذوق طعماً قاسياً، مُرطِّباً، منعشاً، مدوخاً.. صارت رائحة الكحول التي تنبعث منه تسري في شراييني.. خدر لذيذ..

شربت الجرعة الأخيرة، ونمت فوراً، من دون شكر للمضيف..

في صباح اليوم التالي كان حلقي يحترق ملتهباً من جراء السولار الذي شربته ليلة أمس.

الحمد لله أننا نفترق في النهار، وكلٌّ منا يذهب في طريق.

* مقطع من رواية مخطوطة


لمتابعة وكالة سرايا الإخبارية على "فيسبوك" : إضغط هنا

لمتابعة وكالة سرايا الإخبارية على "تيك توك" : إضغط هنا

لمتابعة وكالة سرايا الإخبارية على "يوتيوب" : إضغط هنا






طباعة
  • المشاهدات: 15082

إقرأ أيضا

الأكثر مشاهدة خلال اليوم

إقرأ أيـضـاَ

أخبار فنية

رياضـة

منوعات من العالم