حرية سقفها السماء

وكالة سرايا الإخبارية

إبحــث في ســــرايا
الخميس ,28 مارس, 2024 م
طباعة
  • المشاهدات: 1228

نقشٌ على جدارِ القَلب

نقشٌ على جدارِ القَلب

نقشٌ على جدارِ القَلب

20-09-2020 08:42 AM

تعديل حجم الخط:

بقلم : أ. عمار البوايزة


كانت السَّاعةُ تُشيرُ إلى حوالي الواحدة بعد مُنتصف الّليل ، وحرارةُ الّليل تلفحُ جسده الغارِقَ في زوايا الهواءِ الباردِ النَّافذ من شُقوقِ غرفته الصَّغيرة ؛ يأخذهُ الهدوء المُلقى على كتفيه كالحَمَلِ الوديع ، وتُذيبُ أشلاءَ قلمِهِ الكلماتُ المُتكسَّرةُ ، التي تَتفلَتُ من بين أنامله كفقاعاتٍ شاردةٍ من كأسِ المَوت ، وأمواجُ الدَّهشةِ والخُذلانِ تُسافِرُ مع تمتماتِ عُيونه ، التي صَفَعها سَوادُ ذلك الليل النَّائم فيه ؛ فَجـأةً ينهضُ مُنهكَ القِوى ، ثقيلَ الخُطوات ، كأنما اطبَقت عليه الجبال ، وبدأت تلتهمُ قدميه حِرابٌ كَأسرابِ النَّملِ المقهور ، ولم يُكمِلُ خطوتين وهو يُردد في ذاته "لم يبقَ عندي ما يبتزُّهُ الألمُ" ، حتىَّ وجد نفسَهُ مسجَّىً على فراشه ، وقد تَغَلّغَل العدو - الذي يخشى - في أوردة الوقت ، وقَبّل أوتارَ القدمين.
حاولَ كَبْحَ جِماح نفسه التَّواقة إلى رَشفة القهوة ، ودَلَقَ في حُنجرته حَفنَة ماءٍ كان قد خبّأها في نهرِ ذاكرته ، وروحهُ يُكبّلها العَرَقُ المزدحمُ فيه ؛ وحينما أحسّ بأنه يترنَّحُ بين حبال الموت ، ومجاديف الحياة ، تناول – متردداً – هاتفه المكبوت مِن على حصيرة الغرفة ، ذلك الهاتف الذي يبتلعُ الريق تارةً ، وينزفُ الرّنين تارةً أخرى ، مرّةً ومرّةُ ومرّة ، حتى بادرهُ رفيق دربه وغربته بارتباكٍ قائلاً : "ماذا؟ .. ما بك؟ .. عسى خير" ، فاحتدم في نفسه صراعُ الصوتِ المبحوح مع روحه الصّاعدة مِن مضائق القَصَب المُرْ ، واعتلت دقّاتُ قلبه لاهثةً كأزيزِ الأنفاسِ المخنوقة.
ما بين الخوفِ والأمل ركِبَ موجته الأخيرةِ زاحفاً نحو رواق البيت حتى وصلَ ذروة الموت ، لكنه لم يَمُتُ ، فلم يزلْ في ثنايا صدره الضيِّق نفَساً يتخندَقُ ويئنُّ ؛ وعلى عجَلٍ حضر الفارسُ الأيهمُ الملثّمُ مع حمَّالة النَّعشِ الأخير فنقلوهُ إلى حيثِ الحِمام ، لكنَّهُ لا يزالُ فاغِراً روحه التي تتأهَّبُ للرجوع ، كأنَّها تأبى إلا البقاء بين خفافيشِ الوقت وأجنحة الظلام ؛ وساروا به وهو يسمَعُ لهفة وحزن صديقه ، ويعذلُ قلبه على ما تسبّب له من عناء ، ويجوبُ في بقايا داخله السَّفر على أطلال وطنٍ بعيد بعيد ، ربما شقَّ الحنينُ إليه الضّلوع ، ودفنَ قلبه المكلوم في مقبرة الأحياء ، دون إذنٍ من الأرض ولا تأشيرةٍ من سُلطانِ الهَوى ؛ واستلقى في غيبوبةٍ راحت به إلى ما وراء الحياةِ وما قبل الموت.
لَم يُفارقهُ ذلك الظلُّ المتدفِّقُ في ثناياه ، ذلك النقشُ الناصع البارع البرّاق ، الذي يحزمُ في قلبه كل معاني الأخوة والصداقة الحميمية ، لم يبتعد عنه طُرفة عينٍ ، ولم يتركه يُعاني على سرير الشفاء وحده ، بين سكين المرض ووطأة السَّاعات الثقيلة ، ذلك النّسرُ المحلّق على محطاتِ حياته كالشِّتاء الزّاخر بكل جميل ؛ وما أن شقشقت عيناه واستيقظ من غيبوبته في اليوم التالي حتى نادى عليه ، وفي عينيه عطشٌ شديدٌ للبكاء المرير ؛ نظر إليه باسماُ ملهوفاً يقتاتُ نوازل الوحدة التي بلغت قمتها فيه ، وبساتينُ الفرح الأخضر تُغازلُ جبينه قائلاً: "أخاك أخاك إنَّ من لا أخاً له .. كساعٍ إلى الهيجاء بغير سلاح" ؛ في تلك الغُرفة الفسيحة في المشفى أحسَّ بأنَّ الدُّنيا ليست سوى خبراً على شريط التلفاز المُتمترسِ على الحائط المقابل له ، وليست إلا لحظة مؤقتة تدقُّ أوتارها في جسد الساعة المعلقة ، وأنَّ الصديق لا يُعرف إلا إذا هزّت بك الأهوال والأحوال غربالها.
جلسا معاً يروي كلٌّ منهما ما حدث ، ويتبادلان الحديث المكتنزُ في خزائن القلوب البيضاء بينهما ، فضحكةٌ من هنا ومداعبة من هناك حتى قطع حديثهما صريرُ باب الغرفة ، وبرزت عيناها من نصف الباب ، وحينها استأذن منه صديقه للخُروج ، بينما هو يُومئ إليها قبل القُدوم بأن تخرج ولا تأتي إليه ؛ لم تُقصِر خطاها واستمرت بالمشي نحوه وعلى وجهها غشاوة المجاملات الهمجيّة ومسرحياتُ العشَّاق الباذخة الحضور.
جلست والقلقُ بعينيها ، تتحسّبُ آلافَ النغمات ، جلست وعيونُ القلب من عينيها كالأنياب ، تبكي وتعتذرُ كثيراً ، وتحاول فتح ملفات الحبِّ بلا أبواب ، جلست والدمع على خدّيها سيلٌ كالمطر يسيلُ بلا سرداب ؛ كل هذا وهو في صمتٍ خانق لا يكلمها ولا يردُّ عليها ، فقط يومئُ إليها بيديه بالخروج من الغرفة ؛ إلا أنّه قال لها جملة واحدة وهي تهمُّ بالمغادرة "لا أحتاج رحمة ولا عطفاً من أحد ، فرحمة ربي تكفيني .. كفى تملّقاً وكذبا .. لا أريدك هنا.".
عاتبهُ صديقهُ على ما فعلهُ ، لكنّ قلبه مقبوضٌ ممتلئٌ بالحزن والأسى والخيبات ، فمن يغرِفُ من بئارِ الدماء الملطّخة بعصيرِ النفاق ليرويك لا يُحبك ، ومن يُلبسِكَ ستارَ الخوف ليحميك لن يحميك ، ومن ينعاك وأنت حي لا يتورَّع أن يقتلك ، ومن يأمل أنَّ العُمر له وأنك مُتَّ قبله لن يعطيك الأمل ، ومن يبتلعُ حقَّك في العيشِ لا يستحق العيش معك ؛ أتخم صديقه ذو الذائقة الجميلة بكلماته ، فما استطاع سوى أن يطلب منه الإذن للمغادرة مطمئناً إيّاه بالرجوع فيما بعد ؛ وغادر صديقه وبقي في قبوه الفسيح الذي يضيقُ عليه كلما حجّت السنين الى ذاكرته ، وكلما شعر بطعنات الليالي الدَّاجية على أوراقه.
وبينما هو يقلّبُ هاتفه على السرير في المشفى ، ويستنهضُ همته ونشاطه ، يسيرُ متخفيّاً في دروب الحياة المتعبة مستطلعاً أمزجة السنين ، يمرُّ مرور العابرين على كل غيمةٍ أمطرت به أو هزّت أركان استقراره ، فَتارةً يستذكرُ بحزنٍ ووجعٍ والده الذي نطقت عيناه بوداعه دموعاً زكيّة قبل عدة شهورٍ ، وتارةً يعود إلى خُبز أمّه التي ما انفكت تحنُّ إلى رؤياه ، ويطوفُ في سنيِّ عُمرها ولمساتِ حنانها مودةً ورحمة ؛ ولكنَّ حبائلَ الشيطان كُنَّ قد أوثقنَ قيده جيداً ، فسرعانُ ما تراهُ يلوم نفسه عما سبّبهُ لعاشقته من كدرٍ وضجرٍ ، فما يلبثُ إلا ويضمّها على الهاتف بحنانٍ وطيبةٍ ، ويستنكرُ على نفسه ما أخطأه بحقها لشدَّة شعوره بها وحرصه على ألا يجرحها ولو بنظرة ، لا يدري أهو العشق الأعمى؟ أم هو التيه؟ أم أنَّ هنالك غُراباً يُحلّق بين أنغامها العذبة لم يفهم سرَّ نعيقه بعد؟ في ظل هذا التردد والشك غلّب عاطفته ، وطلبَ منها العودة لزيارته من جديد.
لم تمضِ سوى ساعة حتى كانت بجانبه ، تغسلُ جبينه بوداعةٍ ، وتُغازلُ قلبه بإطراءاتها وغنجها وكلماتها الجميلة ، وتسندُه على طرف السرير ليتناول وجبة الغداء ، تُسبّلُ عينيها وتبتسمُ ملاكاً ، وهو في داخله يشعرُ بالقلق من كل شيء ، فهو يعلمُ جيداً فنون الغرام ومستوى خصوبته وانسيابياته ، فمرةً يعتقدها تحاولُ أن تخفف عنه وطأة الحزن وتنسيه الألم ، وتارةً يعود إلى دائرة الشك والخوف مما وراء الأكمة ؛ رُغم كل ما بداخله من توجّسٍ لم يحاول نزع الفرح من قلبها ، رغم أنها اجتثّت من داخله كلّ بذرة فرح ، وأنفقت كمية الحنان والحبِّ المصطنع لتُلبسه وشاحاً آخراً لا جيوبَ فيه.
ويستمرُّ المسلسلُ في حلقاته من لحظة بدء إجراءات الخروج من المشفى حتى الوصول الى المنزل ، ولا زالت برفقته تتلوى حزناً وتتألم ، وتتمنى له الشفاء والسلامة ؛ ومنذ تلك اللحظة شعر بأنه على بداية الطريق المؤدي إلى السلامة ، ليس بما تمنته له إنما بما تحبسه في صدرها وتخفيه عيناها ، وأيقن أنّ النوم في العسل ليس إلا نوماً على أسرَّة الضياع والغفلة.
ويبقى النقشُ الجميل ، أخٌ لك لم تلدهُ أمك ..
يا أيُّها الخِـلُّ الـوفيُّ تَلطُّفــاُ .. قد كانت الألفاظُ عنك لقاصِره


أ. عمار البوايزة


لمتابعة وكالة سرايا الإخبارية على "فيسبوك" : إضغط هنا

لمتابعة وكالة سرايا الإخبارية على "تيك توك" : إضغط هنا

لمتابعة وكالة سرايا الإخبارية على "يوتيوب" : إضغط هنا






طباعة
  • المشاهدات: 1228
لا يمكنك التصويت او مشاهدة النتائج

الأكثر مشاهدة خلال اليوم

إقرأ أيـضـاَ

أخبار فنية

رياضـة

منوعات من العالم