بقلم : الدكتور محمد أبوعمارة

اعتدنا سابقاً على صورة المعلم الذهبية، المعلم الذي يقدسه أهل الحي ويحترمه الجيران ويتصدر المجالس ويؤم المساجد في القرى ويتصدر الجاهات في الأفراح والاتراح والعطوات.

رُبينا على تفخيم المعلم وتعظيمه لدرجة أن سيدنا محمد عليه اتم الصلاة والسلام ينعت بالمعلم الأول، والإعلام المرئي والمسموع والمقروء آنذاك كان يدعم هذه الفكرة لدرجة أن المعلم في غور الأردن كان ينعت (بالولي) وأنا شخصياً كنت في زيارة مع أخي الأكبر الذي عمل فترة في منظقة غور وادي اليابس وكان أهل المنطقة ينادون المعلم بـ(ولي) المقصود ولي من أولياء الله الصالحين.
لذا كانت مهنة التعليم برغم مشقاتها الكثيرة إلا أنها مهنة جاذبة تستقطب خيرة المتعلمين وأفضلهم.

أما الآن فقد حورب المعلم بطرق مقصودة أو غير مقصودة فالإعلام عمل على هزّ صورة المعلم فوصفه بالشخص الساذج الذي يحتال عليه الطلبة فيحولوه إلى أضحوكة من خلال مسلسلات متعددة وفقرات تستهزئ بالمعلم، وتارة آخرى بذلك الجاهل الذي يسبقه طلبته بالعلم، وتارة بالشرير المستبد الذي يفرغ مشاكله النفسية في طلبته وتارة ضعيف الشخصية الذي يسيطر عليه الطلبة وتارة بالفقير وتارة الجشع الذي يعمد إلى تدريس الطلبة دروساً خصوصية وتارة الذليل الذي يهينه طلبته وهو يدرسهم دروساً خاصة في منزلهم...
تراكم هذه الأعمال وبكثرة وعبر عدة سنوات غير من الصورة المشرقة للمعلم، فأصبح المعلم مثاراً للمزاح وأصبحت -مهنة من لا مهنة له- فنرى المهندس والممرض والمحاسب وخريجي معظم الكليات يعملون بهذه المهنة مؤقتاً لحين الحصول على مهنة أفضل، وهرب العديد من الخرجين الأقوياء والأكفياء من هذه المهنة وهجروها تاركين الجيل القادم – الساخر- في مهب الريح متناسين أن مهنة التعليم التي يهزأ منها هذا الجاهل أو ذاك التافه هي من أصعب المهن على الإطلاق فمن غير المعلم يستيقظ يومياَ وطيلة أيام الأسبوع من الفجر ليعمل ساعات طوال بدون أن يرتاح لدقيقة واحدة ومن من كل المهن يرحّل عمله معه إلى المنزل وأينما حلّ وارتحل فالمعلم تارة يحمل دفاتر الطلبة معه إلى المنزل وتارة أوراق الإختبارات وأوراق العمل... وبعد ذلك يبدأ بالتحضير لليوم التالي من خطط ووسائل للتعليم وخططاً يومية وأسبوعية وشهرية وفصلية وهو أيضاً مطالب بإدخال العلامات والحضور والغياب وبيانات جميع طلبته على منظومة التعليم الإلكتروني ومطلوب منه جدول العلامات ودفاتر العلامات والدفاتر الجانبية ومطلوب منه أن يكون دائماً بكامل أناقته وهادئ الأعصاب ومحتضناً للطلاب ولأهاليهم ممنوع ان يتأخر وممنوع من أن يشتكي وممنوع أن يتذمر، وهو أمام الجميع مسؤل، فهو مسؤول أمام مديره وامام مساعد المدير وأمام المدير الفني وأمام الطالب وأمام مشرف التربية وأمام المدير الإداري وأمام وزير التربية ومسلط عليه الضوء أمام الإعلام وأمام أولياء الأمور وأمام.... وأمام.... وأمام.... فالله درّك يا معلم... الكل يتناسى جهودك الكبيرة والكل يقذف بك وينتهك خصوصيتك ويهز صورتك ومطالب منك في الختام أن تنتج جيل التغيير وأنت تتقاضى الأجر الأقل والإحترام الأقل والتقدير الأقل... فراتب المعلم لا يعادل اجر أسبوع لعامل بناء أو حداد أو سباك أو أي صاحب مهنة من هذه المهن لذا يضطر للعمل كسائق أحياناً وكبائع أحياناً أخرى لان طلفه في البيت الذي ينتظر الطعام لن يشعر بالفخر بوالده ما دام هذا الوالد لا يستطيع ان يؤمن له رغيف الخبز!!!
فإلى متى سنعمل على هدم صورة المعلم وإلى متى سنبقى نحارب هذه المهنة... ألم يأن الأوان للإستيقاظ ألم يأن الأوان لوضع المعلم في مكانته الخاصة ولنتذكر بأن الطبيب والمهندس والمزارع والكاتب والرسام والفنان ماهم إلا نتاج معلم مبدع...
ولماذا لا نسخر الإعلام لدعم الصورة المشرقة للمعلم بعمل مسلسلات وبرامج تظهر صورة المعلم الصحيحة وتركز على كم التضحيات التي يبذلها المعلم في مهنته فمع كل حرف يخط على السبورة هناك حبات عرق ممزوجة بساعات من العمر تذهب ولن تعود أبداً....
فإذا ما أردنا إخراج جيل كما نأمل علينا بلبنة الأساس... المعلم.
فلك أيها المعلم فقط تنحني القامات وأنا أفتخر كوني معلماً...

بقلم الدكتور محمد أبوعمارة
مدير عام مدارس الرأي

لمتابعة وكالة سرايا الإخبارية على "فيسبوك" : إضغط هنا

لمتابعة وكالة سرايا الإخبارية على "تيك توك" : إضغط هنا

لمتابعة وكالة سرايا الإخبارية على "يوتيوب" : إضغط هنا