حرية سقفها السماء

وكالة سرايا الإخبارية

إبحــث في ســــرايا
الجمعة ,29 مارس, 2024 م
طباعة
  • المشاهدات: 8277

قراءة في رواية «كنز في يافا» لفايز رشيد

قراءة في رواية «كنز في يافا» لفايز رشيد

قراءة في رواية «كنز في يافا» لفايز رشيد

10-05-2019 10:50 AM

تعديل حجم الخط:

سرايا - يُذكرنا الدكتور فايز رشيد في روايته (كنز في يافا) بعدد من أهم الروائيين العرب الذين تخصصت رواياتهم بالمكان وجمالياته ودلالاته السياسية وحمولته الفكرية، دون أن يتأثر بأي منهم، وفي طليعتهم: غسان كنفاني، جبرا ابرهيم جبرا، غالب هلسا، عبد الرحمن منيف.
وهي رواية تسد نقصا كبيرا، وفجوة واسعة على صعيد الروايات المتخصصة بمدينة القدس، وتضيف لها بعدا آخر يتمثل في انطلاق شخصياتها وأحداثها من مدينة الخليل، ولتغدو في بعض وقائعها دليلا سياحيا فنيا يُعرّف بعدد كبير من المدن والقرى الفلسطينية والعربية وخاصة في سوريا والعراق ويُظهر جمالياتها ومكانتها الغالية في نفوس ابنائها، وذلك بعد أن يُبرز جذورها التاريخية، وأهميتها الدينية والوطنية،ولتغدو مرجعا لكل المعنيين بالمدن والقرى، في الأدب العربي.
إن تركيز د.فايز رشيد على الفضاء الجغرافي «لا يمكن أن ينفصل عن إحالاته المرجعية: الواقعية والثقافية والاجتماعية والتاريخية».
وتنتمي رواية الدكتور فايز رشيد (كنز في يافا)، إلى الروايات السياسية التي تخصصت في الدفاع عن الأرض الفلسطينية، والصراع مع المهاجرين الصهاينة وعصاباتهم المدعومة من قوات الانتداب البريطاني قبل عام1948،وما شهده النصف الأول من القرن العشرين من ثورات ومقاومة شعبية فلسطينية.
وتعالج الرواية قضية خطيرة ومهمة تتمثل في الإجراءات الصهيونية المبكرة لتهويد القدس وتهجير سكانها، مع التركيز على دور الأسر المسيحية في التمسّك بأرضها المقدسة، ومشاركتها الأسر المسلمة في التضحية بالمهج والأرواح، وبكل غالٍ ونفيس ٍ لقاء الصمود على ثرى بيت المقدس، وعدم الهجرة عنه.
وفي الرواية، صياغة جمالية لجانب من التاريخ الشعبي، والمرويات الشفوية والمدوّنة للصراع العربي الصهيوني، ولسيرة ومسيرة الشعب الفلسطيني، قبل نكبة عام 1948 وبعدها بفترة وجيزة.
ثمة ذاكرة قوية، تمتع بها الروائي المبدع د.فايز رشيد، مكنته من الإمساك بجميع خيوط الرواية رغم كثرتها، والسير معها حتى النهاية، النهاية التي تدعو للتمسك بالأرض الفلسطينية، والتضحية كـُرمى لها، إلى جانب التمسك بخياري المقاومة وحق العودة.
في رواية كنز في يافا،روائي سّارد يتحمّل عبء السرد نيابة عن سارد خارجي، ليقدّم لقرائه سيرة فردية ارتبطت بشخصية بطلها الخليلي (علي)، وسيرة غيرية شعبية جماعية فلسطينية وعربية قومية،من خلال تقنية التناوب، وهي توليفة بين المساقات السردية التي تتناوب في أثناء السرد، لتـُبرز التزام د. فايز رشيد بالهموم الوطنية للأمة، عبر القضية الفلسطينية، وإدراكه للفروق الواسعة بين إبداع الرواية، وبين كتابة التاريخ، ومن هنا كانت روايته بعيدة عن المـُباشرة من جهة، وعن التسجيلية من جهة أخرى.
كان د.فايز رشيد هو الراوي العليم ،الذي يمتزج وعيه بوعي الشخوص وعالم الرواية، ولأن كنز في يافا راوية تاريخية، فقد كان صوت السارد العليم متوافقاً مع الفترة التاريخية لها.
وشخصيات الرواية من النوع الواعي والناضج وطنيا وتربويا واجتماعيا، إذ أنها جميعها إما على مقاعد الدراسة، أو تعمل في التدريس، أو في تنشيط عجلة التنمية والإنتاج، أو في المقاومة، وكلما استشهد عدد من تلك الشخصيات، زوّج الروائي شخصياته الأخرى، لتنجب من يدفعون حركة السير التاريخية خطوات سريعة ومتقدمة إلى الأمام، ولتستمر الحياة، ببشر علاقاتهم الإنسانية متينة، ووحدتهم الوطنية ذات جذور ضاربة في أعماق التاريخ.
ولكثرة ما في الرواية من أحدث درامية، ولقربها من أرق الجماهير، ومن القاعدة الشعبية، رأيت أنها في حال تمثيلها، ستكون قريبة جدا من مسلسل باب الحارة الشامية، أو التغريبة الفلسطينية، فهي تبدأ في الفترة التي كان الفلسطينيون يعيشون حياتهم في وطنهم بهداوة بال، يتعلـّمون، ويبدعون في مجالات تخصصهم في الحياة، ويقدمون للعالم دروسا في الحضارة والريادة والتفوّق والنجاح والتنوير، وحين اشتد الصراع مع الصهاينة ومن ورائهم الانتداب البريطاني،وبدأت المستوطنات الإسرائيلية تتكاثر، وهجمات الصهاينة وعصاباتهم تزداد، أبرز بطل الرواية دور الأحزاب الفلسطينية ومؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات التربوية في المقاومة والتحريض عليها.
وبالنظر للحميمية التي أوجدها الروائي بين الرجل والمرأة في كل الأماكن، وفي كل المواقف ، وفي كل المراحل، فإنها تعيدنا لقول عنترة العبسي: «ولقد ذكرتك والرماح نواهل/ مني وبيض الهند تقطر من دمي».
ولم يكن د.فايز وحده الذي أحدث هذا التكامل وهذا التقارب بين الجنسين في ساحات المقاومة، فمعظم القاصين والروائيين الذين أبدعوا قصصا وروايات وطنية، كانوا يضعون رجل المقاومة والمرأة المقاومة في خندق واحد، وكأن مشروعهما الإستشهادي بحاجة إلى إخصاب يؤدي إلى تجدد للحياة.
لقد أعادنا د.فايز رشيد عبر روايته، لجذور المسأة الفلسطنية، ولبدايات الصراع العربي الصهيوني، ليعرّف الأجيال الجديدة، بما جرى، وليحثها على ضوء هذه المعرفة، على اتخاذ الموقف الوطني المناسب، آخذين بعين الاعتبار، تخطئة قول دافيد بن غوريون «الكبار يموتون والصغار ينسون» فالحقيقة التي أراد د.فايز رشيد إيصالها للعالم، أن الكبار يموتون، أما الصغار فيرِثون عشق الوطن، ويتمسكون بالمقاومة، جاء في الرواية: (في نقاش الأهل عما يتعرّض له الشعب الفلسطيني من مؤامرات متتالية، يلتقط الأبناء الأطفال، جوهر القضيّة ، فتنزرع في تلافيف أدمغتهم، ينمو الواحد منهم، وتنمو خلايا دماغه الحاملة لفكرة التّحرير والقضيّة والهمّ الفلسطيني، ولهذا لن ينسى الفلسطيني قريته، أرضه، انتماءه، طفولته التي عاشها في الوطن، أو في المخيم فيما بعد، لم ولن ينسى هويته).
صحيح أن الرواية ليست مادة تاريخية، وليست بحثا، ولا دراسة، ولكن د.فايز المؤرخ والباحث والمفكر والسارد، جعل الرواية تناقش بفنية عالية، وبجماليات خاصة، وبكل ثقة واقتدار، صمود شعبه ومقاومته، رغم النفي والتهجير واللجوء الذي اصاب كل الذين نجوا من المجازر الصهيونية.
تجاوز د.فايز رشيد في روايته الرقيبين الداخلي والخارجي، فكتب بجرأة وانطلاق ، وفي مواقف كثيرة، كان يـُشعر القارئ، انه يطالع لقطات ومشاهد سينمائية، أكثر من مطالعته لمادة مكتوبة، هذا عدا عما في روايته من لوحات تشكيلية بصرية، امتزجت فيها روعة الوصف المادي، مع المشاعر والأحاسيس والعواطف المعنوية .
ثمة روائي يُبدع، وذاكرة لا تنسى أدق التفاصيل، ثمة مواقف صغيرة، وأخرى كبيرة، يسردها الروائي بحميمية تتلاءم مع دفئها،ولا سيما عندما يتوقف عند ظلم ذوي القربى، وعندما يكشف عن أسرار البيوت وما فيها من خلافات عائلية تمزق النسيج الاجتماعي، في الوقت الذي يسعى فيها الاستعمار لتطبيق مقولة»فرق تسد».
وضمن واقعيته النقدية يُسلط الروائي سهام نقده للجواسيس والسماسرة، ويُبدي جهود الفلسطينيين الرامية إلى عدم تحقيق أمنياتهم وأمنيات العدو الذي سخـّرهم لخدمته ولخدمة مشروعه الاستعماري الاستيطاني.
أجمل ما في الرواية وصفها للمرأة، فمارغو التي قابلها بطل الرواية علي، كانت على النحو التالي: وجهها أقرب إلى الطول منه إلى الاستدارة، تقاطيع وجهها منسجمة مع الثوب الأسود الذي يدثرها، ومع قدّها الطويل، خصرها نحيف وكأنها لا تأكل معظم الوجبات، صدرها نافر، مثل جندي يستعد لخوض معركة.
د.فايز رشيد المبدع والمثقف، استرجع التاريخ العربي، والشعر العربي، وجعل بطلة روايته الفلسطينية اللاجئة إلى سوريا، تقول ما قالته ميسون الكلبية، التي أعجبت الخليفة معاوية بن أبي سفيان، فتزوّجها وأسكنها قصراً، لكنها اشتاقت الى أهلها وحياتها في البادية ، فأنشدت تقول:
لبيت تخفق الارياح فيه...أحبّ إليّ من قصر منيف
ولبس عباءة وتقرّ عيني...أحبّ إليّ من لبس الشفوف
إلى أن تقول:
فما أبغي سوى وطني بديلاً.. فحسبي ذاك من وطن شريف.
أما عنوان الرواية، والذي يمثل عتبتها، فيعود إلى إحدى شخصيات الرواية، والمتمثلة في حنان، الطفلة التي تزرع قرشا في الأرض، كي يثمر لها قروشا كثيرة، فيغدو ذلك القرش الذي لن يُثمر ابدا، كنزا، جاء في الرواية عنه: (رغم معرفتها ببراءة دفنها للقرش، وبأنه لن ينمو قروشاً، حرصت على أن يظلّ القرش مدفوناً في محلّه تحت شجرة البلّوط. كانت تزوره كلّ صباح،وكأنه حبلٌ يصل بينها وبين الشجرة، التي أصبحت صديقتها، بينها وبين المشروع، بينها وبين دير عمرو، بينها وبين انتمائها الفلسطيني، بينها وبين الأرض الفلسطينية. القرش المدفون هو كنزها الابدي، الذي يثبت انها عاشت على هذه الارض الخالدة، الممتدة في التاريخ والازل، القرش المدفون،وعلى صغر سنّها، تعتبره جزءاً من مساهمتها في المعركة الوطنية، التي يخوضها شعبُنا ضدّ اعدائه الصهاينة، الذين استُجلبوا من مختلف بقاع العالم، كي يبنوا دولتهم على أرض غريبة عنهم، كانت وستظلّ غريبةً عنهم وعن أحفادهم، أرض لم يكن لهم علاقة بها في أيّة مرحلة من التاريخ، ارض اغتصبوها بمساعدة الاحتلال البريطاني لهم.الشجرة في ذهن حنان، هي ذكرى المكان والزمان والطفولة، التي عاشتها في أجمل سنوات صغرها. إنها وبعد اتمامها للسنة الأولى في كلية مدرسة شميدت للبنات، اعتقدت أنها اصبحت ابنة عشرين عاما، ومن حقّها أن تفكّر في قضية شعبها ،وتساهم في مقاومته. الوعي هو انعكاس للواقع، والأخير أجبر الأطفال الفلسطينيين على أن يكونوا أكبر من أعمارهم) .
تبدّت ثقافة د.فايز رشيد للأدب العالمي، حين أجرى حوارا في روايته بين بطلها علي، وبين مارغو، حول رواية «أنّا كارنينا» لتولستوي ؟ فحين سألته مارغو:
- ما رأيكِ ببطلة القصة؟.
أجابها: بخيانتها لزوجها وابنها، وبترك حبيبها الضابط فرونسكي لها، خسرت كلّ شيء!.
فقالت له مارغو: ولهذا اختارت الموت، انتحرت حينما ألقت بنفسها تحت عجلات القطار.
قال علي: أعتقد أن تولستوي قسى عليها، فكان من الممكن أن تعود لابنها، إن لم يقبلها زوجها.
قالت مارغو: ليست المسألة موضوع عودتها إلى عائلتها، وإنما ما لفت انتباهي في الرواية مسألتان، الأولى الانتحار في سبيل فكرة يؤمن بها الإنسان، الثانية،أن فكرتها تمحورت في حرمان حبيبها من العلاقة معها، أي أنها عاقبتهُ بموتها..حتى لو هيء له أنه نسيها، لكن موتها سيترك ندبةً في نفسه، عنوانها الحرمان، وستظل تؤرقه طالما بقي حيّاً.
كان هذا الحوار مقدمة لانتحار مارغو، كي تحرم سمسار الأراضي من النيل منها، بعد أن استرجعت بواسطة عقد زواجها عليه، منزل والدها في القدس، وحالت دون أن يُصبح ملكا للصهاينة.
وفي الختام، إذا كانت فلسطين بالنسبة للصهاينة ارض الميعاد، وارض اللبن والعسل، فإنها بالنسبة للعرب بعامة والفلسطينيين بخاصة، هي ارضهم،وملكهم، وكنزهم، وروحهم، ومهوى افئدتهم.


لمتابعة وكالة سرايا الإخبارية على "فيسبوك" : إضغط هنا

لمتابعة وكالة سرايا الإخبارية على "تيك توك" : إضغط هنا

لمتابعة وكالة سرايا الإخبارية على "يوتيوب" : إضغط هنا






طباعة
  • المشاهدات: 8277

إقرأ أيضا

الأكثر مشاهدة خلال اليوم

إقرأ أيـضـاَ

أخبار فنية

رياضـة

منوعات من العالم