حرية سقفها السماء

وكالة سرايا الإخبارية

إبحــث في ســــرايا
الخميس ,18 أبريل, 2024 م
طباعة
  • المشاهدات: 9493

مجتمع حسن السمعة .. ولكن!

مجتمع حسن السمعة .. ولكن!

مجتمع حسن السمعة  ..  ولكن!

22-09-2009 04:00 PM

تعديل حجم الخط:

بقلم :

قبل أكثر من عشرين سنة، خضت تجربة غنية تمثلت في الانضمام إلى الجيش الأردني تحت مظلة نظام خدمة العلم، ذلك النظام الذي ما أحوجنا اليوم إلى إعادة تبنيه للإسهام في وضع حد لسقوط معظم أبنائنا في حبائل الميوعة والانحلال، وهو النظام الذي كانت السلطات المعنية قد سمحت لأبناء الأثرياء بالتملص منه ذات يوم مقابل رفد خزينة الدولة بحفنة من الدنانير، وكأن خدمة العلم لا تليق بمقام أبناء الأغنياء، ثم قامت لاحقاً بتجميده، أو إلغائه في واقع الأمر! بالمناسبة، وهذه واقعة مؤلمة أذكرها على الهامش، بدلاً من أن أحظى بأولوية أظن أنني أستحقها بجدارة لتشرفي بإهداء سنتين من عمري لخدمة علم بلادي، حُرمت بسبب ذلك لاحقاً من حقي في التقدم لأكثر من منحة دراسية كنت مستوفياً تماماً لشروطها العلمية، لمجرد أن عمري أصبح أكبر مما تشترط تلك المنح، التي أرجح أنها ذهبت على طبق من ذهب لبعض المحظوظين من "أبناء الذوات"، الذين يبدعون هم وآباؤهم في السطو على حقوق العباد، وتجيير مقدرات الوطن بكل ما فيه ومن فيه لخدمة مصالحهم الجشعة! أعود إلى حديثي عن الجيش الأردني، الذي يشهد، شأنه في ذلك شأن كل جيوش العالم التي تحرص على إدامة جاهزيتها، طقساً سنوياً محموداً في سائر الوحدات العسكرية، يسمى التفتيش الإداري، وهو عبارة عن عملية تفتيش شاملة تطال كل ما يمكن أن يتعلق بجاهزية العسكري والمعسكر، من ناحية المعدات والأسلحة والعتاد والأثاث والثياب واللوازم...الخ. في نهاية عامي الثاني من الخدمة، وبينما كنت وبعض إخوتي الجنود من المنضوين تحت مظلة نظام خدمة العلم على وشك إنهاء مدة التجنيد، تصادف أن كان موعد عملية التفتيش الإداري قد اقترب، فوجدنا قائد سريتنا يصرّ على أن نخضع لعملية التفتيش تلك، ضارباً بذلك كل منطق سليم بعرض الحائط، فخضوع المجند الموشك على التسريح من الخدمة للتفتيش، يستوجب منه أن يكون مزوداً تماماً بكل ما يحتاج إليه الجندي من مسلتزمات. ولما كنا على وشك إنهاء فترة الخدمة كما تقدم القول، فقد كان مما يتجافى مع قواعد التفكير العقلاني والاقتصادي الرشيد تزويدنا بتلك المستلزمات التي بليَ معظم ما نملكه منها، كالثياب مثلاً، لتقادم العهد عليه؛ إذ إن من شأن ذلك الإسهام في إرهاق ميزانية الجيش، وتكبيده نفقات تجهيز عناصر موشكة على مغادرة الحياة العسكرية عما قريب. غير أن قائد السرية أصر على إشراكنا في الأمر، وكأن الحرب العالمية الثالثة ستقوم إن لم نفعل، طالباً منا في الوقت نفسه تدبير أنفسنا! وتدبير أنفسنا في ضوء إحجامه عن تسليمنا ما نحتاج إليه من متاع، متذرعاً بأنها مسألة أيام قليلة ونترك الجيش، لم يكن ليعني إلا أن نقوم بشراء ذلك المتاع على حساب رواتبنا الرمزية، أو استعارة بعضه من معسكرات مجاورة، ريثما ينتهي التفتيش، وهذا ما كان بالفعل! عندما حضر قائد الكتيبة للتفتيش الأولي ـ وقائد الكتيبة هو أعلى رتبةً بالطبع من قائد السرية ـ تجاسرت وتوجهت بالسؤال إليه حول الهدف من عملية التفتيش الإداري. لم يغضب الرجل على الإطلاق، بل أثنى على السؤال وأهميته، وأجابني بأن التفتيش الإداري ضروري جداً للكشف عن النواقص التي يعاني منها الجيش، مقدمةً للعمل على تأمينها، أي أنه ليس بالأمر الاستعراضي أو الشكلي، بل إنه أمر جوهري يستهدف سد الثغرات والفجوات وتأمين النواقص والاحتياجات، ولن يكون ذلك ممكناً بطبيعة الحال إلا إذا تم الكشف عنها. عندما سمعت إجابته المنطقية المشجعة، تجاسرت مرة أخرى وأعلمته ـ وكان كل ذلك على الملأ طبعاً ـ بأنني أُجبرت ونظرائي من المجندين الموشكين على التسريح على تأمين كثير من احتياجاتنا الناقصة بأنفسنا، عن طريق ابتياع بعضها بما يتجاوز مرتباتنا المتواضعة، واستلاف بعضها الآخر من وحدات عسكرية قريبة! فما كان منه إلا أن نظر إلى قائد السرية نظرة استنكارية تستفسر عن مدى صحة مزاعمي، لينبري هذا الأخير مسرعاً إلى الدفاع عن نفسه بالقول: "لقد فعلت ذلك حتى تحظى السرية بالسمعة الحسنة"! معيداً إليّ بعض الثقة بأن الأخطاء والقرارات الخرقاء كثيراً ما تتولد عن اجتهادات اعتباطية وفردية يرتجلها الصغار، ومرجعاً الأمور إلى نصابها الصحيح، أصدر قائد الكتيبة أمراً فورياً حكيماً بإعفائنا من التفتيش، واقتاد قائد السرية بعيداً عن مسامع الجنود، ربما لتلقينه درساً بليغاً حول فلسفة التفتيش الإداري! يأتي سردي لتلك الحادثة القديمة، التي أظنها ستظل محفورة في ذاكرتي إلى الأبد، لأنني أتعثر بالعقلية المعتلة نفسها (عقلية استجداء السمعة الحسنة، ولو بالخداع) أينما حللت وارتحلت في أرجاء مجتمعنا المبتلى بالجري خلف المظاهر، وبخاصة على المستوى المؤسسي. فالناس عندنا لا يكادون يحرصون على شيء قدر حرصهم على المداراة على العيوب والنقائص والأخطاء أمام عدسات التفتيش، ليغدو الهدف الأهم لنا هو الظهور كما لو كنا مبرئين تماماً من المثالب والنواقص والأغلاط، حتى وإن كان ذلك مجرد ستار آني وزائف، يراد به خداع أعين الرقباء! المقلق في الأمر أن تلك النزعة إلى التستر على مكامن الخلل والقصور، والتحايل من أجل صرف الأنظار عنها، دون اهتمام جدي وحقيقي بإصلاحها، والذعر ليس منها ومن قبحها، بل من إمكان انتباه الآخرين إليها وكلامهم عنها، تبدو كما لو كانت سمة ثقافية متجذرة وغائرة في بنية تركيبتنا الاجتماعية، بحيث تعرب عن نفسها بشكل صارخ في كثير من مجالات تفاعلنا. فعلى سبيل المثال، أزعم أن كثيراً من جرائم القتل التي تسجل في مجتمعنا ضد الإناث بحجة الدفاع عن الشرف، لا تُرتكب لحرقة حقيقية من جانب مقترفيها على الشرف المثلوم، أو لغضب جدي من قبلهم على ما حاق بذلك الشرف من أذى؛ إذ لا يندر أن يكونوا هم أنفسهم من المنغمسين في انحرافات مسلكية تتعارض تماماً مع كل ما له صلة بالشرف، بل تُرتكب لمجرد أنهم وجدوا الناس يخوضون في سيرتهم بما يشين، ولو بقي الفعل الفاضح لأنثاهم في الخفاء، بعيداً عن أعين الناس وألسنتهم، لما غلت الدماء في الرؤوس ولما تم سفك الدماء! ذات محاضرة جامعية مر عليها سنوات طوال، لم يتردد محاضر في علم الاجتماع ـ أصبح الآن بالمناسبة عميداً لإحدى الكليات الكبيرة في جامعاتنا الأردنية العتيدة ـ بأن يدعونا نحن الطلبة إلى ضرورة الابتعاد عن التركيز على إبراز المشكلات ومواضع الخلل والتأخر في مجتمعنا، حمايةً له من شماتة الأعداء واسوداد السمعة، مستشهداً لدعم نظريته البائسة بمقولة شعبية شهيرة تستهجن قيام الناس بنشر غسيلهم القذر على الملأ! فأي قيم هروبية تحايلية نتربى عليها!؟ التربية كما نعلم، بمؤسساتها المختلفة، هي المسؤولة عن غرس القيم الأخلاقية في نفوس الأفراد واستنهاض الاستعدادت الأخلاقية الكامنة فيهم، ومن ثم فإن بالإمكان توجيه أصابع الاتهام إلى المؤسسات التربوية، وعلى رأسها المدارس والجامعات، لضلوعها في جريمة تنشئة أعضائها على السلوك الوضيع المنافق، الذي يفتقر إلى الشجاعة الأدبية للاعتراف بالخطأ والإقرار بالضعف، بحيث يشبون بشخصيات مريضة وجبانة، لا تسعى إلى الإصلاح والتعمير عن حماس وطيب خاطر، ولا تصدر أفعالها عن ضمائر حية وإحساس بالواجب واحترام طوعي لمقتضيات النظام والسلوك الأخلاقي القويم، بل تنبثق عن خوف سقيم من عقاب الآخرين وتأنيبهم، فلا تعبأ إلا بتلفيق صورة مثالية مفتعلة عن نفسها، ولا تمتثل إلا تظاهراً وتمثيلاً للقوانين والأنظمة والمعايير والأعراف، مع استعداد كبير لخرقها جميعها والإتيان بأحط الممارسات وأخسها بمجرد ضمان غياب الرقيب والحسيب! كل ذلك يجعلنا نطالب، كأضعف الإيمان، بإيلاء عناية خاصة وجادة لمسألة تطوير مناهج فعالة في التربية الأخلاقية لطلبة المدارس والجامعات، لعلها تسهم في شيء من إكساب الناشئة حساً أخلاقياً ناضجاً، يدفعهم إلى رفض مبدئي وثابت وأصيل لكل أشكال البشاعة والخطأ والتقصير، ليس من أجل الناس وكلامهم، بل لأنها مظاهر معتلة وسلبية ينبغي أن تأباها النفس السوية وتعافها، وأن تبذل ما في وسعها لتغييرها، وهذا ما سيجعلهم أهلاً لنيل سمعة زكية وعطرة حقيقية، ما داموا يحرصون بإخلاص على تتبع الاعوجاجات وتقويمها، ويبادرون بتفانٍ إلى الإتيان بأفعال وإنجازات بناءة ومشرفة، بدلاً من السعي الكاذب إلى استجداء سمعة طيبة زائفة، تخفي خلفها واقعاً معطوباً ومتداعياً، لا بد وأن ينزاح الستار عنه يوماً، لينهار ويزكم برائحته المتعفنة الأنوف!
 د. خالد سليمان sulimankhy@gmail.com


لمتابعة وكالة سرايا الإخبارية على "فيسبوك" : إضغط هنا

لمتابعة وكالة سرايا الإخبارية على "تيك توك" : إضغط هنا

لمتابعة وكالة سرايا الإخبارية على "يوتيوب" : إضغط هنا






طباعة
  • المشاهدات: 9493
 
1 -
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
22-09-2009 04:00 PM

سرايا

لا يوجد تعليقات
الاسم : *
البريد الالكتروني :
التعليق : *
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :
برأيك.. هل طهران قادرة على احتواء رد فعل "تل أبيب" بقصف بنيتها التحتية الاستراتيجية حال توجيه إيران ضربتها المرتقبة؟
تصويت النتيجة

الأكثر مشاهدة خلال اليوم

إقرأ أيـضـاَ

أخبار فنية

رياضـة

منوعات من العالم