22-06-2009 04:00 PM
ليست محاولة رثاء بل مخطوطة بكاء لفقدان عزت القسوس:
ما أقسى الموت حينما يحرمك من عزيز يعرفك، له حضور في ساعاتك السعيدة والحزينة، وإن لم أكن يوما من الآبهين في هذا الدنيا، ولم أكن أميز بين فشلي، وإحباطي مما يدور حولي فيما أدرك دوما أني أتعاطى السعادة لفترات محدودة، وقد رضيت بقدر الله، وقد زججت نفسي فيما بعد قارئا وكاتبا لأحوال الناس، ولا اعرف لماذا قررت أن أعاقب نفسي بتسول هموم الناس وبسطها على صفيحة الورق لأتجرع آلمها.
اعتدت طوال سنوات عمري التي خلت على الجلوس وحيدا، حتى أني قرأت وحيدا، وكتبت وحيدا ولا أذكر أن أحد فكر أن يعلمني ولا أنا طلبت ذلك. وقليل من الأصدقاء الذين كانوا مقربين لي. اما باقي العلاقات فكانت عابرة وهادئة وراكدة إلا أن العلاقات الثابتة كان لها وقع وتأثير كبير في حياتي وكنت أحافظ على أن أقدم لها عطاء ومدد كبير.
ثمة ثلاث فواجع أثرت في حياتي وسببت لي إحباطا طويل المدى وولدت آلاف الهزات في قلبي، وكلها لرجال فقدتهم، حيث لم يكن للأنثى ذلك الحضور الواضح أو المؤثر في حياتي، فقد كنت شابا مملا لا تستهويه النساء، فأنا لا أتحدث سوى في السياسة وأكثر طموحي أن أقف على حجر محرر في عكا أو أصلي ركعتي الضحى في باحة الأقصى، هذا الشعور لم يكن يستوعبه الناس ولم يكن من يحبني أو يكرهني قادرا على استيعاب رجل أبله يحمل هموم العرب في رأسه الصغير.
في احيان كثيرة يكون الحزن مخاضا لولادة جديدة وحياة مختلفة لمشاعر تنفجر على حين دمعة، فقد كان موت البطل عبد العزيز الرنتيسي انطلاقا لي بالكتابة، ولحمل سلاح القلم وعلى دموعي تحولت لحبر في لحظة لم أكن قبلها أظن أني سأكون كاتبا وقاصا.
في صحيفة السبيل والرأي المتناقضتان و بحق لا يوجد شعور أجمل من أن ترى مقالا لك في صحيفة وتتأكد أن أفكارك تصل إلى عيون القراء ... وقبل نشر المقال الثالث توفي نصر الدين العديلي ذلك الرجل الذي كنت لا أمل من الجلوس معه، مثلما هو كان يشعر بذلك مع أن عمري كان لا يتجاوز 27 عاما وهو قفز عن العقد السادس.
وكان قبلها بأسابيع قال لي :"لماذا تتكلم فقط ألا حولت حروفك للورق"، قررت أن أطيعه ولكنه مات وابتعد بنوبة قلبية حادة منعته من قراءة مقالي الثالث ومنعي من قراءة عيونه والجلوس بين أنفاسه. لم يمت فجأة فقد كانت الحياة تحتضر في عينيه وكنت أعرف أن قلبه طلب راحة طويلة المدى.
بعد عدة سنوات توفي صديقي زاهر سويدات. انقلبت سيارته في طريق غير معد للموت. دون سابق إنذار وآخر ما تحدثنا به قبل ساعة من وفاته أن هذا العالم مُحبط وأن كل الذين أشاهدهم يرتدون أقنعة كثيرة، وقد مللت من خلع الأقنعة ولم أعد أملك جهد البحث عن الوجوه الحقيقية. كان زاهر في تلك اللحظة يقرر أن يغادر هذا العالم غير آسفا ولهذه الحظة ما زلت أقسم أن سيارته لم تنقلب بل روحه غادرت شاتمة هذا العالم شديد التلون. فقد كانت عيونه محبطة لهذا العالم الغريب في سيره والذي لا تستطيع أن تمنح ثقة دائمة لمن يعشيون حولك بل عليك أن تعيش في حالة شك.
عشت السنوات الاخيرة أتدرب على فقدان الثقة بكل الذين أعاشرهم، وأتمزق في كل يوم وأنا أرى اللامبالاة أو الباحثين عن الشهرة في سوق الكلمات، حتى تعرفت على عزت القسوس.
يكفي أن أقول هاتان الكلمتان لأجد نفسي أعيش في هيام لرجل لم أعرفه سوى لبضعة اشهر، إلا أني أشعر به وكأن قرون مضت كنا نقضيها معا.
لم أحب شخصا في حياتي مثل عزت القسوس، فقد كنت لا أمل إذا ما سمعت صوته يأتي عبر الهاتف، كان قلبي يرتعش حين يقول "آهلين أستاذ عمر" والله لقد كانت حالة أسطورية تتخطى محبة العاشقين.
شعور لا أستطيع شرحه لأحد، وكل قاموسي اللغوي يعجز عن وصف لحظة كنت اقضيها معه، وكاذب من يقول أن كل أشعار العالم قادرة على وصف لحظة شوق أو همسة حزن. شعوري لذلك الرجل كان غريبا في كل شيء حتى بمحبته إلى ومحبتي إليه.
ما بين الصداقة والأبوة والحب والخوف والاستعجال والتمهل ما بين معرفتي السريعة إليه وفجيعي الامحسوبة لمغادرته أشياء كثيرة لا أستطيع فهمها ومحاولة استدراكها حتى هذا الوقت. كان في كل حرف يحرص على ملئي بخبرته، بماضيه، لا يترك شخص إلا ويحدثني عنه يقلب خبرته بين يدي . كان مستعجلا ودوما يقول لي "لا تتأخر يا عمر و خليني اشوفك".
لم أكن أتوقع في لحظة أن هذا الرجل الذي كنت أنتظره منذ عامي الأول كي يكون حاضرا في عالمي أنه سيغادر، أو سيسمح ليوم يشرق دون أن لا أراه أو اسمع صوته، كان يخبرني أنه لن يعيش طويلا، وكنت أهرب من هذا الحقيقة، مع أن كل طقوسنا كانت سوداوية، ولا نتحدث حين نجلس سوى عن الموت، والضياع، عن فلسطين عن حياته في لبنان، عن يسوع يصر على محاربة من دل عليه.
كان عزت القسوس مسيحيا مختلفا، لم ينس للحظة أن يكون محاربا للذين أخبروا الرومان عن مكان المسيح.
كان يهتم بتربية الدجاج وحوله ديكا أو أكثر وفي كل يوم ينظر إلى الديك ويقول له ستصرخ أيها الديك مرة ومرتان وثلاث ولن أنكر المسيح.
حينما كتبت عن كرهي للموت لأنه يخطف أصدقائي قرر أن ينعى نفسه في مقالي ويكتب لي التعليق التالي : "قد تنعاني يا عمر قريبا".
إلا أني لم أكن أريد تصديق فكرة فقداني له يوما بل ارفض حتى التفكير في هذا الأمر ولو كنت أدرك أنه سيغادر بهذه السرعة لما كنت أخرج من بيته ولبقيت أسجل كلامه وأدونه.
غادر قبل أن ينهي مذكراته ورؤيته لخطر الصهيونية. غادر وترك مئات الكتابات التي تجدد في حياتي وكأنه مستقبل وليس أرشيفا.
في العادة أتجنب الكتابة عن الذين أحبهم، لأني لست مروجا لعواطفي وأفراحي، وأحزاني، ولا أحب أن يشاركني أيضا أي إنسان مهما كانت مكانته عندي لحظة حزن أو يمنع سقوط دمعة من عيني، أحب أن احترق ككومة حطب أو كشمعة بهدوء مكتفيا بوجه لا أستطيع إخفاء حزنه. لذا اكتفيت بالصمت منذ اللحظة التي عرفت أنه غادر في يوم نادر لم أزره أو أتحدث معه عبر الهاتف.
كانت علاقة سريعة وتزيد بشكل سريع مفاجئ علاقة أشبه بحالة عشق إغريقية، حتى أن أسرتي لم تكن تعرف عن هذه الصداقة، إلا أني أخبرتهم أن عائلة رائعة جدا سأدعوها إلى بيتي حين يأتي أخي محمد من الغربة، فقد كنت أريد أن أجمع هذان الشخصان في مكان واحد، واقسم أن طقوس غريبة كانت تجمعني في عزت القسوس.
ما زلت أجهل لماذا لم أكن أتحدث معه هاتفيا سوى حينما أكون وحيدا، ولا يوجد حولي احد. وكأنه انطواء نحو شيء جميل أو سر لا أريد أني يشاركني به أحد.
لذا لست مستعدا لأن أفسر هذا الحزن الذي يلم بداخلي ولن ارتكب أكبر خيانة لنفسي إذا قررت بالحظة حزن أن أنساه أو أسامح نفسي لأني لم أكن معه في ساعاته الأخيرة وسأظل أجيب كل من شاهدوا عيوني التي لا تدمع في العادة لأن مجرى الدمع فيها مغلق وأقطرها بدموع اصطناعية، أني لا أستطيع وصف حالة روحية لم أفهم سرها.
حتى عندما هاتفتني زوجته الخالة أم بشارة تلك الإشبينة لصداقتي مع عزت القسوس والتي كانت تجلس جانبه إذا زرته أو هاتفته وقالت لي قبل خروج الفجر بساعات قليلة أنه توفي
صرخت بكلمة واحد لا ..
عدت واتصلت بها عليّ كنت أحلم أو قد أكون فهمت خطأ أو هل قالتها مجازيا، إلا أنه حقا كان قد غادر من دون أن يقول لي حتى "دير بالك على حالك" في تلك الليلة التي كنت اسمع فيها أغنية فيروز "تلج تلج" والتي لم تكن تناسب الحر الذي كان يتواجد في تلك الليلة، كلمات أحب سماعها في فصل الشتاء ومع سقوط المطر، ولا أعرف ما الذي دعاني أن اسمع هذه الأغنية في تلك اللحظات هل كنت اودع سنة روحية بخمسة اشهر صنعها عزت لي فقط أو أن هناك أسطورة انتهت وعلقت على الشجرة ودفنت في المغارة مع بكائي هذه المرة وليست دموع طفل المغارة.
اعترف أن السير في جنازة الأصدقاء ألم لا يوصف سيما وانت تضع حبيبا في حفرة ومن ثم تسمح للمحيطين أن يهيلوا عليه التراب.
كلهم كانوا يبكون أما أنا فقد كنت أناجيه بكلمات قليلة، قلتها وأنا انظر إلى التابوت في اللحظة الأخيرة لماذا غادرت وأنت تعرف كم أنا بحاجة أليك، وتعرف كم هو حضورك جميل في حياتي كليلة عيد.
لا أتحدث هنا عن ألف سبب وسبب جعلني أحب عزت القسوس ولن أتحدث عن عزت نفسه الأسطورية أو رفضه لأن يعلق على ورقة الدولار وأكتفي فقط بان أقول أن البطل غادر وهو يكتب بحبر طاهر يعبأ من محبرة الفقر ويرفض أن يعبأ قلمه من مداد الذهب الذي يشتري الضمائر.
لن أتحدث عن الذي هزمهم وفضحهم، وظنوا أن المشوار انتهى ولا يدرون أن شخصا واحدا كان أقوى منهم لأنه مؤمن بما يكتب بينما هم مؤمنون بما تكسب جيوبهم.
يكفيني أن أقول أني لم اعد استسيغ الكتابة فقد كنت بعد كل مقال استيقظ واهاتفه مرددا نفس السؤال ومنتظرا إجابة واحدة "ممتاز يا عمر".
عمي أبو بشارة غادرت وأنا احضر أشياء كثيرة كنت احضرها لك وكتابات كثيرة وددت أن أقرأها لك وأحاديث طويلة انتظرت أن تسمعني إياها، إلا انك مثلما علمتني أن الحب لا يحتاج لمكان أو زمان علمتني أن الموت لا يحتاج لإنذار كي يترك مجالا لان نستعد للرحيل أو الوداع أو حتى وضع قبلة واحدة على جبين حي ولن أقول لك سوى أني إشتقتلك جدا إلا انك تعيش معي وتحضر وتقرا ما اكتب وتنظر لي وما زلت مصرا على صرختي لا تقولي لي انه مات .....
Omar_shaheen78@yahoo.com
لمتابعة وكالة سرايا الإخبارية على "فيسبوك" : إضغط هنا
لمتابعة وكالة سرايا الإخبارية على "تيك توك" : إضغط هنا
لمتابعة وكالة سرايا الإخبارية على "يوتيوب" : إضغط هنا
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
22-06-2009 04:00 PM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |