حرية سقفها السماء

وكالة سرايا الإخبارية

إبحــث في ســــرايا
الخميس ,25 أبريل, 2024 م
طباعة
  • المشاهدات: 26861

" لماذا الدولة المدنية في هذا الوقت"

" لماذا الدولة المدنية في هذا الوقت"

" لماذا الدولة المدنية في هذا الوقت"

17-05-2017 02:54 PM

تعديل حجم الخط:

بقلم : د. محمد عطالله سالم الخليفات
شهدت السنوات الأخيرة ارتفاع الكثير من الأصوات في معظم البلدان العربية منادية بالدولة المدنية على اعتبار أنها هي الحل وسبيل الخلاص من الأوضاع السائدة، وهي التي يمكن أن تتحقق الإرادة العامة فيها للمواطنين في إطار سيادة القانون وإحترام حقوق الإنسان وحرياته.
وبداية لابد من التسليم بأن مفهوم الدولة المدنية ليس بالمفهوم الجديد، بل هو من المفاهيم القديمة التي تعود إلى حقبة ما قبل الميلاد وتحديداً إلى حضارة بلاد اليونان، إذ كان فلاسفة الإغريق الأوائل هم أول من بحثوا في النظم السياسية وتأليف الحكومات الديمقراطية ووضعوا نظرية الدولة المدنية وإن لم يكن بالمفهوم الذي نعنيه اليوم، فقد أكد أفلاطون (427-347 ق.م) في كتابيه "الجمهورية" و"القوانين" على سيادة الدولة وأهمية انصهار المصلحة الفردية في المصلحة العامة ووجوب طاعة القائد متى انتخب. وتناول كذلك أرسطو (384-322 ق.م) في المقالة الثالثة من كتابه "السياسة" عدة موضوعات في ميدان الدولة المدنية منها: المواطن، والفضيلة المدنية، والجماعة المدنية. ومن الملاحظ هنا أن كل من أفلاطون وأرسطو كانا معاصرين لبعضهما البعض، وعاشا في حقبة سيطرت فيها الأنظمة الديكتاتورية والنزعة الاستبدادية على أنظمة الحكم، فكان ذلك دافعاً لهما في وضع النظريات المناسبة لأنظمة الحكم والبحث في مفهوم الدولة المدنية .
أما في حقبة العصور الوسطى فيلاحظ أنه في الوقت الذي غابت فيه عن المجتمعات الأوروبية الغربية الحياة المدنية بفعل سيطرة الكنيسة على مختلف مكونات المجتمع السياسية والدينية والاقتصادية والاجتماعية، جاء الإسلام في المشرق بما يحاكي مفهوم الدولة المدنية وهو ما عرف بـ "صحيفة المدينة" التي أصدرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة، إذ ضمنت الصحيفة لسكان المدينة من مسلمين وغيرهم حرية العبادة والاعتقاد، والتعايش السلمي، والمساواة في الحقوق والواجبات وفق أسس ومعايير اتفق عليها بالتراضي. فقد احتوت الصحيفة على قرابة خمسين مادة جاءت في معظمها تعالج النواحي الإدارية والتنظيمية لسكان المدنية، أو تعالج شؤون الحرب، وهذا ما يدلل على أن الصحيفة صدرت إما بعد معركة بدر (2 ه)، أو بعد معركة أحد (3 ه)، وليس كما يعتقد البعض أنها صدرت في السنة الأولى للهجرة، ثم أن صدور الصحيفة من مكان خارج المسجد، ومن خارج بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ صدرت من منزل " أنس بن مالك" وهو يهودي، لدليل آخر على مدنية الدولة الإسلامية.
غير أن ظهور مفهوم الدولة المدنية بشكل أكثر وضوحاً، وممارسة أكثر فعلية، فيعود إلى فترة ما بعد انتهاء العصور الوسطى وقيام ما عرف بعصر النهضة في أوروبا(عصر التنوير)، ونلمس ذلك من خلال محاولة العديد من فلاسفة ذلك العصر صياغة تصور للنظام الجديد يقوم على أسس ومرتكزات حديثة بمنأى عن المؤسسات والنظم القديمة التي ظلت لعقود طويلة قابعة تحت سيطرة سلطة الكنيسة. وكانت أول محاولات إضفاء الصورة المدنية على الدولة في الغرب الأوروبي من قبل نيكولو ميكافيللي (1469-1527م) الذي أفرد فصلاً خاصاً في كتابه " الأمير" لتناول مفهوم " الدولة المدنية" ، أطلق عليه عنوان "عن الإمارة المدنية"، حاول فيه تحديد الصعوبات التي تواجه كل حاكم يريد الاحتفاظ بدولة جديدة ويضمن لها البقاء والاستقرار. وبعد ميكافيللي ظهر العديد من الفلاسفة الأوروبيين الذين بحثوا في مفهوم الدولة المدنية ولعل أشهرهم على الإطلاق جون لوك ( 1632-1704م)، الذي قدم لنا أكمل صورة عن مفهوم الدولة المدنية، وهي الدولة التي تقوم على تقييد سلطات الحاكم، والفصل بين السلطات، وحق الشعب في الاعتراض. يقول جون لوك "إني أول من يسلم بأن الحكم المدني هو العلاج الأصيل لآفات الطور الطبيعي".
أما عن ظهور مصطلح الدولة المدنية في البلاد العربية، فيرجع إلى عقد السبعينات من القرن العشرين، حيث كان أول ما استخدم في مصر في عهد الرئيس أنور السادات، الذي اعتقد أن مفهوم الدولة المدنية سيكون أقل وقعاً على المجتمع من مصطلح الدولة العلمانية أو الليبرالية، خاصة في ذلك الوقت الذي سيطرة فيه قيم القومية على المجتمعات العربية، وميول السادات إلى السلم مع الكيان الصهيوني بعكس التوجهات العربية السائدة آنذاك.
ومع مطلع عام 2011م، عادت فكرة ومفهوم "الدولة المدنية" لتطغى على الساحة العربية، ويبدو أن ظهورها في هذا الوقت قد ارتبط ارتباطاً وثيقاً بثورات الربيع العربي التي انفجرت منذ أواخر عام 2010م ومطلع عام 2011م، والتي تمثلت في حركة من الاحتجاجات والهيجان خاصة بين فئة الشباب من جهة، والأوساط الشعبية التي تعاني من ظروف معيشية سيئة بسبب انتشار الفساد والمحسوبية وانعدام الحريات والمساواة من جهة أخرى، أو بين الأوساط المثقفة المحرومة من المشاركة السياسية لانعدام الديمقراطية واحتكار السلطة من جهة ثالثة. فقد رافق أحداث انطلاق هذه الثورات ارتفاع بعض الأصوات المنادية بالدولة المدنية على اعتبار أنها هي الحل وسبيل الخلاص من الأنظمة الاستبدادية التي استأثرت بالسلطة وجثمت على صدورهم منذ سنوات طويلة. ثم وبعد أن نجح الإسلاميون والسلفيون في الانتخابات التي جرت في تونس ومصر عام 2012م، واستلموا مقاليد السلطة فيها، ظهرت مخاوف جديدة ومن نوع آخر لدى المجتمعات العربية، تتعلق بإمكانية مصادرة القوى الإسلامية للحريات العامة والخاصة على حد سواء، وتعمقت هذه المخاوف بصفة خاصة بعد فشل تجربة حكم الإسلاميين في مصر وعزل الدكتور محمد مرسي عن الحكم عام 2013م. وبعبارة أخرة ارتبط ظهور الدعوة للدولة المدنية في البلاد العربية مؤخراً بما رافق ثورات الربيع العربية من صراع بين الثقافة الديمقراطية والأصولية الدينية، وبين ثقافة منح الحريات وقمع الحريات، وليس كما يعتقد البعض بأنه مشروع خارجي مفروض علينا فرضاً.
وقد لوحظ في خضم ثورات الربيع العربي أن ظهور فكرة "الدولة المدنية" قد صاحبه حالة من الجدال والنقاش ما زال دائراً بين الكثير من الأوساط السياسية والدينية في العديد من الدول العربية، وإن كانت حدة وتيرته تختلف من دولة إلى أخرى؛ وفي هذا السياق نستطيع أن نحصر ثلاث اتجاهات من فكرة الدولة المدنية: الاتجاه الأول: يرحب بفكرة الدولة المدنية من منطلق أنها لا تمثل تناقضاً مع الدولة الدينية، بل تمثل شكلاً من أشكال التنظيم العقلاني للمجتمع. والاتجاه الثاني: يقف ضد الفكرة والمفهوم ويمثله أنصار الدولة الدينية "الإسلاميون السلفيون" الذين نظروا للدولة المدنية على أنها دولة علمانية تعنى بفصل الدين عن الحياة. يقول أبو فهر السلفي "وإذا أتينا لمصطلح الدولة المدنية سنجده يستعمل فلسفياً ويراد به باطل عظيم، وهو نزع المطلق الديني عن سياسة الدولة". أما الاتجاه الثالث: فيرى بإمكانية استخدام مصطلح الدولة المدنية مع ضرورة تقييده بالمرجعيات الدينية.
وفي الأردن تبنى جلالة الملك عبدالله الثاني فكرة الدولة المدنية، من منطلق أنها ليست مرادفاً للدولة العلمانية كما يصورها البعض، كما أنها ليست نقيضاً للدولة الدينية؛ لأن الدين في الدولة المدنية كما يقول جلالته هو عامل أساسي في بناء المنظومة الأخلاقية والقيم المجتمعية. فجاء في تعريف جلالته للدولة المدنية في الورقة النقاشية السادسة على أنها هي " دولة القانون التي تستند إلى حكم الدستور وأحكام القوانين في ظل الثوابت الدينية والشرعية، وترتكز على المواطنة الفاعلة، وتقبل بالتعددية والرأي الآخر، وتُحدد فيها الحقوق والواجبات دون تمييز بين المواطنين بسبب الدين أو اللغة أو اللون أو العرق أو المستوى الاقتصادي أو الانتماء السياسي أو الموقف الفكري". ويبدو أن فكرة الدولة المدنية كانت تراود تفكير جلالته منذ فترة مبكرة وقبل طرحه للورقة النقاشية السادسة عام 2016م، إلا أن مدلولاتها الثقافية، وتعقيداتها الفكرية الأيدلوجية أرجى طرحها لحين إزاحة الغمة عن مفهومها وبيان القواعد الفكرية التي تبنى عليها، وهذا ما يؤكده جلالته بقوله "كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن الدولة المدنية، وقد حدث لغط كبير حول مفهوم هذه الدولة، ومن الواضح أنه ناتج عن قصور في إدراك مكوناتها وبنائها"، فقد جاء في خطاب جلالته في مؤتمر "نهضة الأمة: حوار الأديان، والإسلام من أجل السلام والحضارة" الذي عقد أعماله في مدينة جاكارتا في شباط / فبراير 2014م، قوله " وأن النموذج الأكثر جدوى للدولة الإسلامية المستدامة والقابلة للحياة هو الدولة المدنية".
هذا وقد تمحورت مقومات الدولة المدنية الحديثة بحسب الرؤية الملكية في الأردن بثلاثة مرتكزات رئيسة، هي: الديمقراطية الحديثة، والمواطنة الفاعلة، وسيادة القانون. ولعل من أهم المكاسب التي يمكن أن يحصل عليها المواطن والدولة معاً في حال الفهم الصحيح لمفهوم الدولة المدنية، وتطبيقه كنهج حياة، الآتي:
1. تحقيق العدل والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين بغض النظر عن انتماءاتهم وعقائدهم وولاءاتهم وأفكارهم.
2. التغلب على الانقسامات الطائفية والعشائرية في المجتمع.
3. احترام الرأي الآخر، والانخراط الفاعل في المجتمع، وتبني الحوار والحلول الوسط ورفض العنف.
4. احلال قاعدة التشاركية في التضحيات والمكتسبات بين الدولة والمجتمع.
5. سمو القانون وعلوه على جميع مكونات الدولة ومؤسساتها.
6. شيوع التعددية السياسية والحزبية في المجتمع والدولة.
7. مشاركة جميع المواطنين في قضايا مجتمعهم بالرأي والفكرة والكتابة والاعتراض، بشكل بناء بعيداً عن التشكيك والرفض لذاته فقط.
8. حرية الاعتقاد والعبادة في إطار سيادة القانون.


لمتابعة وكالة سرايا الإخبارية على "فيسبوك" : إضغط هنا

لمتابعة وكالة سرايا الإخبارية على "تيك توك" : إضغط هنا

لمتابعة وكالة سرايا الإخبارية على "يوتيوب" : إضغط هنا






طباعة
  • المشاهدات: 26861
برأيك.. هل تكشف استقالة رئيس الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية وصول الردع الإسرائيلي لحافة الانهيار ؟
تصويت النتيجة

الأكثر مشاهدة خلال اليوم

إقرأ أيـضـاَ

أخبار فنية

رياضـة

منوعات من العالم