حرية سقفها السماء

وكالة سرايا الإخبارية

إبحــث في ســــرايا
الجمعة ,29 مارس, 2024 م
طباعة
  • المشاهدات: 23315

(ولستَ تُبالي!) للشاعر أيمن العتوم .. روح التحدي

(ولستَ تُبالي!) للشاعر أيمن العتوم .. روح التحدي

(ولستَ تُبالي!) للشاعر أيمن العتوم ..  روح التحدي

27-08-2016 12:29 PM

تعديل حجم الخط:

سرايا - سرايا - يبدو الشاعر أيمن العتوم إيجابيّاً في نظرتِه لِما حولَه، حتّى لِلمِحَن التي واجَهَتْه فواجهها، ثمّ جابهها بل وتحدّاها. يقول في قصيدته «ولستَ تبالي» (مجموعة «قلبي عليك حبيبتي»، دار الفارس، عمّان، 2013):

مَطيّتي الهَمُّ يسقيني الرِّضا غدَقاً

وهو المُحَرِّكُ أشجاني، وإلهامي.

لقد اتخذ العتوم «الهمَّ» وسيلةً للسَّفر، وهذا من ضروب المُفارَقة التي تكاد تألَفها وتعتادُها في شعره، وهو راجعٌ إلى شخصيَّتِه المُتَمرِّدَة.. كيف غدا لـ»الهَمِّ» -وهو قيمَةٌ سلبيّة- أن يَحوزَ تعبيراً إيجابياً: «يسقيني»، «الرِّضا»، «غدقاً»، ويحرّكُ «إلهامي»، والإلهامُ –في عُرْفِ الشعراء- قيمةٌ إيجابيَّةٌ يُحَبِّذُها الشاعرُ، حتّى إن كان ما يُفجِّرها «الأشجان»، وهذا ما يَألَفه الشجاع، بل ويَتُوقُ إليه. يقول المتنبي:

فحُبُّ الجبانِ النَّفْسَ أَورَدَه التُّقى

وحُبُّ الشجاعِ النَّفْسَ أوردَه الحَرْبا

إن «الهَمّ» الذي يؤرق الشاعر هو هَمٌّ جليل، ورسالةٌ عظيمةٌ قام بها الأنبياء من قبل، وخَلَفَها الأقوَمُ فالأقوَم، والشاعر لا يُبالي –في سبيل الدِّفاع عمّا يُؤمن به وما يهتمُّ به- بأيِّ مُعَوِّق. فكما يقول المتنبي:

ذو العقلِ يَشقى في النَّعيم بِعَقلِه

وأخو الجهالَةِ في الشقاوةِ يَنْعَمُ!

وإن كنتُ «وحدي» في حربي، فحَسْبي أنني فَطِنْتُ لِما يُراد بي وبأُمّتي، ووصلْتُ إلى ما يمكرون.

وكُلُّ جُرحٍ بقلبي رُحْتُ أَعْزفُه

كعازفٍ في صحارى الليل هَوّامِ

هذه قِمّةُ التَّحَدّي، وغايةُ ما تَصْبو إليه. أن تُحيلَ آلامَكَ لَحْناً تَتَرنّمُ به وتُنشِدُه، وإذ أنشدتَه فلستَ إذن وَحْدَك، لأنّ النَّغَم كفيلٌ بِتَسخير جماهير من النّاس يُصغون لِصوتِك، ويُدَندِنونَ ألحانَك.

وصورةُ العازفِ الهوّام في صحارى الليل تُعيدُ إلى خيال القارئ ذكرى العشّاق المُتَولِّهين في الشعر العربيّ القديم، لكنّ شاعرَنا يَهيمُ بِحُبِّ أُمَّتِه وأفكارِه التي يُناضِل لِأجلها ويَفديها بِرُوحِه، فهو لا يُقاسي مَرارةَ الفراقِ والهَجْر، إنّه لا يُبالي أن يَرصُدَه الموت أين سار لِتَحيا أفكاره:

تَسَلَّلَ الغَيْبُ في عُمْقي فبَعثرَني

إلى شظايا، وأصداءٍ، وأنغامِ

فالذي عمد السّجن إلى «بعثرته» في حياتِه، أحالَه الشاعر وسائلَ تَخدم تَوَجُّهه، فأفرزت مِحْنَتُه «شظايا» في وَجْهِ مَنْ عاداه، ووجَدَت كلماته «أصداءَ» في قلوب النّاس، واستقامت «أنغاماً» يشدو بها مَنْ لامِسَت قلبَه.

كأَنّما الحَرْفُ مَنْقوشٌ على كفني

ورابِضٌ عند بابِ الموتِ قُدّامي

كان مُتاحاً للشاعر أن يقول: «ورابضٌ عند باب الموت وأمامي» دون أن يَخْتَلَّ الوزْن، لكنّ اختيارَه للفظة «قدّامي» جاء مَقصوداً، فالجَرْسُ الصّوتي لِشِدّة تلاقي القاف بالدّال المُشدّدة جاءَ أَوقَعَ في النَّفس، وأعمقَ أثراً، ولفظةُ «قُدّامي» أكثَرُ جرياناً على أَلْسِنَة النَّاس، تحمل إشارَةً إلى ميزة «التّقدُّم» و»المُقَدِّمة» التي تَسْعى لِلتَعَلُّق بها الرُّوحُ الطَّموح. يقول المتنبي:

إذا غامَرْتَ في شَرَفٍ مَرومِ

فلا تَقنَعْ بما دون النَّجومِ

إن قصيدة «ولستَ تُبالي!» تَحْمِلُ روحَ التَّحَدِّي في مواجهة الأَلَم الذي سَكَنَ فؤادَ الشاعرِ إثْرَ خيانَةِ مَنْ أَحَبَّ، ويُفْضي إلينا بِسِرٍّ جاشَ في صَدْرِه المجروح، فأقامَ يُبين عمّا يَخْتلِجُ في نفسه، يَعْجَبُ مزيداً من العَجَب لِنَفْسِه التي أَبَتْ أن تترك ما آمنت به وطال جهادُها في سبيل إحرازه، والكلام المَحذوف (....) أَمَرُّ وأقسى من أن يُذكَر، إنّها جراحٌ غائرة، وخياناتٌ غادِرة، ربّما مِن أعزِّ مَن كان شاعرنا يتأمل فيه.

يَفْتَتِح العتوم قصيدتَه بِمَطْلَعٍ يستدعي إلى الذهنِ قول أبي الطّيّب:

لياليَّ بعد الظاعنين شكولُ

طوالٌ، وليلُ العاشقين طويلُ

فالشاعرُ يتحدّث بنَبرةِ الخطاب، يُخاطب نفسَه ومَن عانى مُعاناته ومَرَّ بتجربته، ومَنْ يُوجّه الخطاب (المُتَحَدِّث) هو المُنْصِف أو عين الحقيقة والبصيرة، و»الظاعنون» (المسافرون) يستعيض عنهم شاعرنا بـ «الصّادقين»، فالصّادقون المُخلِصون هم الذين ارتَحَلوا ومَضوا، فلم يَبْقَ في فؤادِ المَصاب سوى أرضٍ مُقفِرة.

وأنّكَ عِشْتَ الدَّهْرَ حُلْماً مُجَرَّحاً

وحولكَ في ليلِ الحياةِ ذئابُ

فالحياةُ التي طمحتَ لِتَحقيقها، لم تَنَلْ منها إلا «حُلماً مُجَرَّحاً»، حتّى أحلامُك لم تَخْلُ من الجراح والمَكْر والخديعة فيمَنْ كنتَ تظنّهم أقاموا حولك لِحمايتك، فإذا بهم «ذئاب»!

يواسي الشاعرُ نفسَه بِخُلقِ «الصَّبر»، ويُلِحُّ عليه إلحاحاً شديداً:

فيا خافقي اصبرْ أيُّ خلْقٍ مُخَلَّدُ؟!

وكُلُّ مآلِ الكائناتِ ترابُ

ويا خافقي اصْبر، إنّ صبرَكَ طَيّبٌ

وما عَزَّ بالصَّبرِ الجميلِ طِلابُ

النَّاسُ يموتون، وتبقى أعمالهم وما قَدّموا من تضحيات يُسَجِّلُها التاريخ، والشاعر هنا مُولَعٌ بتكرار اللفظة نفسها، لقد باتت ألفاظه في حياتِه ذات معنىً يتراحب، حتّى يغدو رَمْزاً.

وما يزالُ شعرُ أبي الطّيّب المتنبي يُلِحُّ على خاطر القارئ كلّما داوم قراءةَ شعر العتوم.. شخصيَّةٌ مُشابِهة، ثارَت على مُعطياتِ الواقع، وأَلْهَمَتْ العتوم قولَه:

أمامَكَ دُنيا سَوفَ تُبقيكَ في غَدٍ

نَبيّاً، له المَجْدُ العظيمُ كِتَابُ

ولأنَّ الشاعرَ يَحْمِلُ هِمَّةَ الأنبياء، ومُوكَّلٌ بمهمَّتِهم تِجاهَ النَّاس، فالشعرُ باقٍ لا يُفنيه موتُ صاحبه، لأنّ الأفكارَ السّديدة خالدة، يموت الكُلُّ لِتَبْقى:

تَبَدَّلَ، إلا اللهُ والشعـــــرُ والهــوى

بقلبي، وضاقت بالوفاءِ صحابُ

وهل ضرَّ قلبي وحدةٌ وتَغَــــرُّبٌ؟

أنا الشمسُ لا يُفني ضيايَ غيابُ

وما دام أمرُ الله في الكون ظاهراً

فكيف يَهابُ الشّعرُ وهو يُهاب؟!

وبَعْدُ؟،..

أنا الخُـــــلْدُ ما غنّى بشعريَ واحِدٌ

وما ذَ رَفَتْ دَمْعَ السّمـــاءِ سَحابُ

أُحاربُ الحُزنَ وحدي جاعلاُ ألَمي

شهــــداً، ونارَ صباباتي كأنســام!

إذا حُزتَ خُلْداً، وصَيَّرتَ الألم شهداً، فـبأيِّ شيءٍ تُبالي ولِأَيِّ مُصابٍ تَهْتَمّ!

لقد أفرزَ عُمْقُ رُؤية الشاعر العتوم، فلسفةً في تَقَبُّلِ مُعْطياتِ الحياة، تُجاوِزُ العُمْرَ المحدودَ للإنسان، إلى حياةِ الفكرةِ التي تُلابِسُ المُدى، وتُلامِسُ أشواقَ الرُّوح وتَرقى به إلى عالم الخلْد الذي لا يَفنى، ويَسْتَغْرِقُ أعماراً فوقها أعمار.


لمتابعة وكالة سرايا الإخبارية على "فيسبوك" : إضغط هنا

لمتابعة وكالة سرايا الإخبارية على "تيك توك" : إضغط هنا

لمتابعة وكالة سرايا الإخبارية على "يوتيوب" : إضغط هنا






طباعة
  • المشاهدات: 23315

إقرأ أيضا

الأكثر مشاهدة خلال اليوم

إقرأ أيـضـاَ

أخبار فنية

رياضـة

منوعات من العالم